قراءة شاملة لقصيدة " أتجذّرُ في غزّةَ زيتونًا" للشاعر حسين جبارة
القصيدة:
أتجذّرُ في غزّةَ زيتونًا
تجويعٌ تعطيشٌ وَإبادهْ
أطواقٌ وحصارٌ في الجوِّ وفي البرِّ وفي البحرْ
قصفٌ رقميٌّ في تموزَ وكانونَ يُزيلُ المعمورَ بِعَمْدٍ
فَيُشرِّد منكوبًا في البردِ القارسِ في لَهَبِ الحرّ
ترحيلٌ تهجيرٌ، تشتيتً تفريقٌ
إخلاءُ الدارِ من السكّانِ بأنيابِ القهرِ ولؤمِ الغدر
هَدْمُ المسجدِ والديرِ تباعًا
منعُ الصلواتِ وقرعِ الأجراسِ
وخفضُ الصوتِ بِبوحِ إمامٍ يدعو
تسنده في الفجرِ تراتيلُ الحَبْر
قتلُ القيمِ بحدِّ السيفِ يراعِ الزيفِ
بِمسحِ الإدراكِ بغسلِ الوعيْ
وبدِرعِ الهجماتِ ووعظِ الموتِ بحفرِ القبْر
كمُّ الأفواهِ بمكّةَ والشامِ،
وشلُّ الساقِ ببغدادَ وقاهرةِ مُعزِّ اللهْ
هيَ تسليمُ الساجدِ والراكعِ في أفغانستانَ وباكستانْ
عجزُ ملوكٍ أُمراءٍ جنرالاتٍ
رُؤساءٍ وشعوبٍ ذلّتْ للكِسْرةِ،
تَرْضَى بالمنصِبِ تُرضِي بالذلِّ المولى
وهيَ تواطُؤُ مّنْ طافَ بِبَيْتِ اللهِ بُعَيْدَ السعيِ ورميِ الجمر
تسقطُ أمٌّ تحضنُ طفلًا
تسقطُ أُسَرٌ، تَتَزلْزلُ أحياءٌ وقرى
عَرْشٌ يتداعى يتوارى
وعلى مرأى العالمِ يسقطُ شعبٌ عارٍ من أمنٍ وأمانٍ
يُمْحَقُ يُمْحى
يقضي بالحُلْكةِ، يقضي بالجهْر
تَدفنُ حرياتُ العالمِ للآخرَ أحلامًا ورُؤى
تنعمُ بكنوزِ الربِّ وتحرمُ موهونًا
تهنأُ بالسطوةِ فالجبروتْ
باسم الديمقراطياتِ تُبيدُ نساءً ورجالًا
تئدُ جنينًا، تطمسُ عِرْقًا
تطمرُ قِسْطًا وحقوقًا
تمحو غزّةَ عَن وجهِ الأرضِ بكسرِ الظَّهْرِ وشقِّ الصدْر
تمحو عَرَبًا عميت عن رؤيةِ شمسٍ
عميَتْ عن نهجِ صِراطٍ بِهدايةِ بدر
ماتَ ضميرُ الحاكمِ في مُدُنِ الأضواءِ بباريسَ ولندنْ
ماتَ قبولُ الغيرِ بِرَغَدِ العيشِ ببرلينَ وواشنطنْ
ماتَ التاريخُ بما نادى في صحوةِ يوم
في صحوةِ يومٍ نادى
نادى بالثورةِ صوتًا للحقِ يناغي رحلةَ عدلْ
جفَّ التاريخُ نداءً، يَتَدفَّقُ سيلًا بين ضفافِ النهر
شاخَ الصمتُ ببكينَ وموسكو
غطَّ الغارقُ بالنّومِ بطوكيو
غابتْ نظريّاتُ الفكرِ تُناهضُ ظُلْمًا
وترامتْ صحراءُ الغابِ، تُغطّي في الكونِ فلسطينْ
تُبقي من وطنِ الأجدادِ الوكْر
أحيا في الوطنِ كسيحًا،
أدحرُ محتلًّا بإرادةِ روحي
أتنفّسُ فاءً
أتَغذّى لامًا
أعزفُ سينًا
أرسمُ طاءً
أصقلُ ياءً
أسطرُ نونًا
أتجذّرُ في غزّةَ زيتونًا
أتجلّى بالحنّاءِ وبالصبر
وأتوّجُ مشوارَ العزّةِ بالتحريرِ
أُحقِّقُ أحلامَ العاشقِ في ديرِ البلحِ وفي الغوْر
حسين جبارة أيلول 2025
****************************
القراءة:
تمثل قصيدة "أتجذّرُ في غزّةَ زيتونًا" للشاعر الفلسطيني حسين جبارة لوحةً ملحميةً مكثفةً، تسجل مأساة شعب غزة تحت الاحتلال والحصار، ولكنها في الوقت ذاته تُجسّد إرادة الصمود والتشبث بالهوية والأمل بالتحرير. تنتقل القصيدة ببراعة بين تصوير الدمار والقسوة وبث روح المقاومة والتحدي.
أولاً: المضمون والفكرة المركزية
تدور القصيدة حول محورين رئيسيين متلازمين:
1. محور التدمير والاستهداف: وهو تصوير مفصّل للفظائع التي يتعرض لها الشعب في غزة وفلسطين عمومًا، من حصار وقصف وتشريد وتهديم للمقدسات وقتل للبشر والقيم. لا يقتصر الشاعر على الجانب المادي للدمار، بل يتعداه إلى استهداف الهوية والوعي والذاكرة.
2. محور الصمود والمقاومة: وهو الرد على هذه السياسات من خلال التأكيد على التشبث بالأرض والهوية والثقافة. ينقلب المشهد في النهاية من سرد المأساة إلى إعلان التحدي والتمسك بالجذور وترديد حروف الهوية كسلاح أخير.
ثانيًا: التحليل الفني والأسلوبي
1. العنوان والرمزية: يعلن العنوان "أتجذّرُ في غزّةَ زيتونًا" عن موقف المتكلم الذي يختار أن يكون جزءًا أصيلاً من الأرض، ممتد الجذور كشجرة الزيتون، رمز السلام والصمود والخلود في الثقافة الفلسطينية. هذه الجملة ليست مجرد وصف بل هي فعل مقاومة وجودي.
2. بناء القصيدة وانزياحاتها اللغوية:
· انزياح الدلالة النحوية: تبدأ القصيدة بجملة اسمية (أتجذّرُ) تؤكد الثبات والديمومة، لكنها تليها مباشرةً سلسلة من المصادر (تجويعٌ، تعطيشٌ، إبادة، ترحيل، تهجير...) التي تحوّل الفعل إلى حالة دائمة ومستمرة، مما يعكس استمرارية المعاناة.
· انزياح التركيب النحوي: يحذف الشاعر الأفعال في الكثير من المقاطع ويستعيض عنها بالمصادر، مما يخلق إحساسًا بالحدث العام والشامل الذي لا يحتاج إلى فعل لأنه أصبح واقعًا مفروضًا. ("تَجْوِيعٌ تَعْطِيشٌ وَإبَادَهْ... تَرْحِيلٌ تَهْجِيرٌ، تَشْتِيت تَفْرِيقٌ").
· انزياح الدلالة المعجمية: يستخدم الشاعر كلمات قوية ومؤثرة تحمل دلالات عنف وقهر ("أنياب القهر"، "لؤم الغدر"، "حد السيف"، "يمحق يُمحى").
3. التكرار والترديد: يستخدم الشاعر التكرار لإحداث تأثير تراكمي يصور ضخامة الكارثة واتساع نطاقها ("تمحو... تمحو... مات... مات... مات"). كما أن تكرار حرف العطف (الواو) يعطي إحساسًا بتوالي المصائب دون توقف.
4. الرمز والدلالة: تزخر القصيدة بالرموز:
· الزيتون: رمز الصمود والجذور والسلام.
· المسجد والدير، الصلوات والأجراس: رموز للقدسية والتعدد الديني المستهدف.
· مكة، الشام، بغداد، القاهرة: رموز للأمة العربية والإسلامية التي يشير إلى عجزها أو تواطؤها.
· الحِنَّاء والصبر: نباتان صبوران يعيشان في الأرض القاسية، رمز للجمال والتقاليد والقدرة على التحمل.
· حروف الهوية (فاء، لام، سين، طاء، ياء، نون): هي حروف كلمة "فلسطين" عندما تُجمع. تحويلها إلى أفعال ("أتنفس فاءً، أتغذى لامًا...") هو عمل ثوري يجعل من الهوية واللغة نفسها وسيلة للتنفس والتغذية والمقاومة. إنها أقوى صور التشبث بالهوية.
5. الصورة الشعرية: يبني جبارة صورًا قوية ومؤلمة تعتمد على المفارقة، مثل: "يُشرِّد منكوبًا في البردِ القارسِ في لَهَبِ الحرّ"، وصورًا عنيفة كـ "قتلُ القيمِ بحدِّ السيفِ يراعِ الزيفِ"، وصورًا تعكس الإصرار كـ "أدحرُ محتلًّا بإرادةِ روحي".
6. الإيقاع: يعتمد إيقاع القصيدة على النثر الشعري الموزون، الذي يجمع بين حرية التعبير وقوة الإيقاع الداخلي. يستخدم الشاعر السجع أحيانًا ("تَرْضَى بالمنصِبِ تُرضِي بالذلِّ المولى") مما يعطي نغمة موسيقية حادة تعكس قسوة الواقع.
ثالثًا: الرؤية والتأويل
لا تقدم القصيدة سردًا للحدث فقط، بل تحفر في أعماقه لتكشف عن أبعاده:
· البعد الإنساني العالمي: تنتقد القصيدة صمت العالم وتواطؤه ("على مرأى العالمِ يسقطُ شعبٌ").
· البعد السياسي: تنتقد النظام العربي الرسمي ("عجزُ ملوكٍ أُمراءٍ جنرالاتٍ") وتتهمه بالرضا بالذل.
· بعد المقاومة الثقافية: تقدم القصيدة نموذجًا للمقاومة لا يعتمد على السلاح فحسب، بل على التشبث بالهوية واللغة والتراث، وهو ما يظهر جليًا في المقطع الختامي الذي يحول حروف كلمة "فلسطين" إلى أفعال وجودية.
خاتمة:
"أتجذّرُ في غزّةَ زيتونًا" هي أكثر من مجرد قصيدة؛ إنها وثيقة أدبية مقاومة. إنها تسجيلٌ للجرح وأنينٌ من الظلم، ولكنها في اللحظة ذاتها هتافٌ للتحدي ونشيدٌ للأمل. يستخدم حسين جبارة اللغة ليس كأداة للوصف فقط، بل كفعل مقاومة بحد ذاته، حيث يصير التشبث بالحرف والكلمة مساوياً للتشبث بالأرض، ويصير تجذّر الشاعر زيتونةً في غزة هو الرد الأقوى على كل محاولات "الإبادة" و"المحو". القصيدة هي تأكيد على أن الجذور أعمق من القصف، وأن الهوية أقوى من محاولات طمسها، وأن روح الشعب التي "تتنفس فلسطين" هي الضمانة الوحيدة لتحقيق "أحلام العاشق في دير البلح وفي الغور".
طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
10/09/2025

