تحية بحجم الكون للصديق الذي جعل من تجربتي الشعرية موضعا لبحثه الجامعي و الذي طلب مني عدم ذكره و لا ذكر عنوان البحث لحين مناقشته ،، في هذا البحث خصّ الصديق الاوديسة التونسية بالقسم الأكبر اليكم جزءا من الفصل الذي يحمل عنوان "ملحمة التيه والحبّ: دراسة في فصل البحّارة الأخيرون" من الأوديسة التونسية" كما تجدون المقطع الشعري اسفل المقال
--------------------------------------------------
المقدمة
تشكل *الأوديسة التونسية* مشروعًا شعريًا ملحميًا يتقاطع فيه الشخصي بالجمعي، والمأساوي بالأسطوري، وتُعيد من خلاله تجربة الشاعر عبد الله القاسمي صياغة الأسطورة الهوميرية في سياق تونسي-عربي معاصر. في فصل "البحّارة الأخيرون"، يتجلّى هذا المشروع بشكل كثيف، من خلال سردية تعددية الأصوات تسائل الوطن، والموت، والحب، والسياسة، بلغة تمزج بين الشعر والخطابة والرؤيا. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذا الفصل من خلال مقاربات متعددة: رمزية، نفسية، وسوسيولوجية، للوقوف على عمقه الشعري والفكري.
الإشكالية
كيف يوظف الشاعر عبد الله القاسمي البنية الملحمية والصوت التعددي في بناء خطاب شعري مقاوم، يسائل السلطة، وينتصر للهامشي والمقصي؟ وما هي الأبعاد النفسية والأنثروبولوجية لهذا التيه الجماعي الذي يعيشه البحّارة – الشهداء – الشعراء؟
1. البنية الملحمية وتعدد الأصوات
يعتمد النص على تقنية البوليفونية (polyphony)، حيث تتناوب الأصوات بين آخر البحّارة، الحالم، الأصغر، والكبير. هذه الأصوات ليست مجرد تمظهرات لغوية، بل هي تمثيلات لطبقات من الذات الجمعية التونسية. (...) هذا التعدد الصوتي يُخرج النص من خانة القصيدة الفردية إلى مقام الرؤية الشعرية الكونية الجماعية، ما يربطه بأساليب الشعر الملحمي كما عند وولت ويتمان أو محمود درويش في مراحله الأخيرة.
2. الشعر كفعل مقاومة
يتجلّى الشعر في هذا الفصل لا كأداة زينة بل كفعل مقاومة وجودية. فالأمر المتكرر «اُكتب» يحمّل الشاعر مسؤولية تتجاوز الجمالية إلى المسؤولية الأخلاقية: (...) هنا تصبح الكتابة معادلاً رمزيًا للعدالة، والرغبة في تخليد الهامشي والمسكوت عنه.
3. السياسة واليوتوبيا الضائعة
يحفل الفصل بنقد مبطّن وصريح للسلطة السياسية، من خلال صور الطحالب التي غزت المدينة، والخطابات العقيمة، وتكرار ذكر “المدن” كفضاء فاسد في مقابل البحر كفضاء بديل (...) السياسي هنا خصم الشعراء والعشاق والبحّارة، لا فقط كسلطة بوليسية، بل كقوة رمزية تنتج خطابًا يقتل الحلم ويصادر اللغة.
4. الحبّ كيوتوبيا بديلة
في مقابل السياسة، يقترح النص الحبّ كفلسفة للوجود. الحب ليس مجرد عاطفة، بل هو الأفق الوحيد الممكن للبقاء والكتابة والتطهر (...) هي لحظة *عرفانية شعرية*، تكشف عن جوهر الوجود لا من خلال السياسة، بل من خلال الانصهار الكلي في الآخر/المحبوب/الوطن.
5. الأسطورة المعكوسة: من العودة إلى التيه
خلافًا لأوديسة هوميروس حيث يعود أوليس إلى وطنه، فإن أوديسة القاسمي تتجه من الوطن إلى التيه. الغاية ليست العودة، بل الاعتراف بأن لا عودة ممكنة. البحر هنا ليس وعدًا بالخلاص، بل ساحة الشهادة والانمحاء.
الخاتمة
يرتقي فصل "البحّارة الأخيرون" من الأوديسة التونسية إلى مقام الرؤيا الشعرية المركبة التي تحتضن الإنسان في هشاشته وقوته، في تيهه وحنينه، في غضبه وحبه. الشاعر لا يقدّم سردًا نرجسيًا، بل يلتحم بالجماعة ليقول وجعها وحلمها، مُستبدلًا السلاح بالكلمة، والخطاب السياسي بالمجاز الوجودي.
مراجع
- باختين، ميخائيل. "قضايا شعرية". ترجمة يوسف حلاق.
- أدونيس. "زمن الشعر". دار العودة.
- غاستون باشلار. "جمالية المكان". ترجمة غالب هلسا.
- إدوارد سعيد. "تمثيلات المثقف".
- محمد بنيس. "الكتابة بالشعر".
هو مقطع من الاوديسة التونسية
عبدالله القاسمي
.................................................
اخر البحّارة :أنا يائس من أولي يا إخوتي و الأحلام بلا صدى
انا يائس من أولي و الاحلام في الخريف كما في الوطن اشدّ مرارة
أحتاج ضحكتك مثل القصيدة التي طال انتظارها، القصيدة الخضراء ،القصيدة التي يشتهيها العشاق و الشعراء
وطني الذي أحبه حرمني الخبز و الهواء و الضوء،
لن احرمه الحب و الدموع ككل الفقراء
هل تعرفون يا إخوتي من أين جئت؟
من تربته التي تنضح بالعطش وجباله التي تئن بمياه أمطار الخريف …
هكذا ولجنا أعتاب العالم…فقراء جدا ... كل الورود فريسة حمراء لساستنا ،
من الأماكن العديدة ولجنا العالم ، من الماء والتراب، من النار والرياح ،
من كل مكان ناء، في خريطة البلد
ما يوحّدنا هو الحب الرهيب الذي يكبل أيدينا وقلوبنا ويأسر النجم في أحلامنا ،
مثل عاصفة عظيمة متمرّدة
البحّار الحالم : ذاتي متوهجة كمعدنٍ تحت المطرقة
و ذلك الحب الذي يتراءى، حلم ما قبل الولادة
سنولد من جديد ذاتاً أبديّة
سنمضي بلا جروح حتى ندرك الموت كذلك الحب هو خَيَالُ الموت،
اصغر البحّارة : عندما لم يكن شعري مقصوصاً على جبيني .. ولا أعرف تأويل قبلات ابنة الجيران
عندما كنت أنزل البحر عاريا ... لعبتُ عند بوّابة المدينة ، و قطفتُ الزهور البريّة لأمي .
كنت كحصان يجري، ركضتَ حول المكان الذي تجلس فيه الشمس، وأخذتَ ألهو بالنجوم الزرق.
لم يتسلَّل الشكٌّ و الهموم إليّ، ولم أعرف الكره لاني لا أسمع المذياع و الخطابات ، ولم أقرأ البيانات .
عندما لم يكن شعري مقصوصا على جبيني لم أضحك مطلقاً على انحناءات الأشجار الخجولة.
كنت أخفض رأسي أمام العابرات وأنظر إلى الأمام . لم أنظر مرّة إلى الخلف.
في السنوات الأولى ، توقّفت عن العبوس يوم عرفت ان لي بلدا ، تمنيّت لو أني غبار الفاتحين الذين مرّوا و الدينصورات التي أفلت و الشموس التي ستشرق ...
الطحلب الآن صار أسود ، بل طحالب كثيرة بالمدينة ... الطحالب يصعب إزالتها!
أوراق الأشجار سقطت مبكراً في هذا الربيع الخريف،
وأنا سقطت في الريح. و شرانق الفراشات تصفرَ ، والطّحالب تهجر البحر لتغزو الحديقة ؛
يبدو أنني تقدّمت في السن يا إخوتي ... وحسرتاه
صوتي قاحل
وأنفاسي ريح تهبّ على عشب يابس
لم أعد أجرؤ على التحديق في الأحلام...
في المدينة أحلامنا رتيبة و مفزعة كما الموت
و لم يعد ضوء شمس ينسكبُ على أكفنا و الأشجار تراقصنا وأصوات الريح تغنّي...
أصواتنا أكثر بُعداً وأكثر ألما من نجم يحتضر
دعوني أرتدي البحر ، دعوني أحاكي الريح في حركتها
وليكن موعدنا آخر اللقاءات في مملكة الشفق المرّ .
البحّار الحالم : ذاتي متوهجة كمعدنٍ تحت المطرقة
والحزن الذي يتراءى في عينيّ هو حُبّ ما قبل الولادة لبلاد أَصفى من سمائها ... لبلاد تئنّ بالحنين
كنت ذاتا جامحة لا تطلب أن تكون أبديّة بل تَمضي في العشق و التوّحد
وهذا الفجر الذي بلا جروح، وهذا العمرُ حيث النور أَعمق سأعيشه في حبّها، حتى يطلّ الموت أخضر حين يجيء، أخفَّ من رياح الحريّة،
للموت والحبّ طعم واحد في أسطورة العشق الأولى
لا شر في البحر بعد الآن
لن نسمع غير الشوق ولن نرى غير الحُلم
من شدّة الوله صرتُ شمساً خضراء ،
الشعر الذي سيُكتب سيُظلّ للظلام مكمنا و للنّور ساحة ، سيظلّ متّقدا ..
لم أكن واعياً في معاركي كنت أكسبها. لأنّ السُّلطان يخسر دائما بحرّاسه الذين فقدوا الحب و الماء .
ما أعمق الشعر المتدفق و النائم في المستحيل. يبدو كعبارة هزليّة ! لكنْه كالسيف مرّ
سأمضي في هذا الشّعر لن أرفعه للسّادة السّاسة ليُنقّحوه،
هم يجهلون جميع الأساليب وأُسلوب العشق الرائع. ويجهلون أنّ الشاعر كما الشيطان ملعون دائما ...
أين كنت أيّتها العبارة الجريئة ؟ سجنتك الملائكة و الأبالسة والشرطة و سجنونا معك منذ ما قبل العهد الذي قيل عنه بائدا ولم ينته...
أخر البحّارة : ما أجمل الشّعر و النّساء ... و ما أمر حُرّيّة البشر.
الحُبّ الذي يشدّني للأرض بلا وجه و بلا هويّة . يشدّني إلى بشر لم يجلسوا تحت صفصافتي ولم يتناولوا عشاءهم على مائدتي .
هم الأحبّة و بيني وبينهم مسافة للتأمّل. يسيل لعابي لظلالهم وخبزهم و كل آهة عشق منهم لا بُدّ أن تكون هدفي.
و المفرح في الأمر أنّهم يغنون لي دون أنْ يعرفوا. وأنا أتدفّأ بحرارة العشق فوقهم دون أنْ يعرفوا.
نافذتي نوافذهم
أُكتبْ أيّها الشاعر خطاك على المواسم. أُكتبْ قُبلتك على الخبز والعرق. أُكتبْ على الألم .
أُكتبْ.
أُكتبْ شهوتك على الحجر ، طَيفك على النّار،أحلامك على الجمر.
أنت عائد غداً إلى سيّدك البحر.
أُكتبْ.
أُكتب وَهْمك ،همّك، وعبورك على الضفاف والنوافذ.
أنت لست الربيع الذي يجيء كُلّ عام.
أُكتبْ لغة البرّ والبحر. أُكتب الرّغبة والتعب. اكتب الخجَل والحَجَر. القوّة والضعف. أُكتب المريد والشهيد. الوجع والفرح. أدمن الحبّ وأغمس يديك في الينابيع العميقة.
أُكتب! نقمَتَك على الثلج ،ثورتك على الكلس ،حنوّك على الشمس.
أُكتبْ حُبّك لعيون النّساء جميعهن.
اكتب ليصير عود الثقاب في العتمة كلمة وخنجرا، والرجفة في الصقيع قاموسا، والنسيم في القيظ مفردة ، والغُربة واللّقاء لفظة ، والنهر والشجر قصيدة .
اكتب لينام الأطفال الجوعى في حضن الكلمة.
اكتب لتنام النساء الثكلى مع الكلمة.
تسلّل في اللّيل من أسوار الحرف وستدلّك نجمة عطشى إلى ساحة لا يعرفها ساسة البلد.
كبير البحّارة : الضمادات تعوزنا لنضمّد جراح الكون
فكم من الإبحار يلزمنا لنقنع الماء بتطهّرنا من ذنوبنا
وكم من موجة ستفصلنا عن الذاكرة
وكم من عاصفة سنجتازها لاستعادة الضوء
سننساب بين تجاعيد الموج والمحيطات الغريبة
لن نقذف المرساة فليس في الأرض غواية ، وليس في الأرض منأى للفقير عن الأذى وليس في البحر ساسة جائعون
سنقول للبحر : أيها السيّد .. هيت لك
نحن البحارة الجوعى : نحن الأشجار الحزينة و النحلة المثابرة على العسل
سنمضي مع البحر فلا الثورة ثورتنا و لا الحلم حلمنا
نحن الرجال المحشورون في المدينة مثل وسائد القشّ.
أحلامنا صحارى قاحلة ... مدجّجين بالصمت الأزرق ورغبات الموحشة
وجوهنا أشكالٌ بلا هيئة، وظلالنا بلا ألون
سنعبر مملكة الموت بجسارة ... لا تتذكّرونا مع الأرواح الشرّيرة و لا تصنّفوننا مع الثّوار و التائهين .. ولا مع العشّاق و الأنبياء و لا الشعراء
في مملكة الموت أصوات الرياح تنشد
و ضوء الشمس ينسكب متعرّجا و الأشجار تتراقص
في مملكة الموت يستوي الساسة و الفئران ... البوم و الملوك ..
في مملكة الموت نسير فرادى
وننسى طعم الشفاه التي تُقبِّل
فالعيون الجميلة ليست هنا...
والأجساد المغموسة بالعسل ليست هنا
ولا ﺃماكن للّقاء
المساءات الشتائيّة اللذيذة بطعم الوجع تسترخي في أحداقنا
لسنا سوى شرائح لحم في ممرَّاتِ الموج
لم نترك لكم سوى أعقاب أحلام مُحترقة من أيام مُدخّنة و بعض النفايات الوسخة من جوعنا
الرغائب الذاوية انتعلناها في أقدامنا ... وتركنا في زاويةِ الشارعِ مواعيدنا الوهمية تفوحُ شاحبة بنشيج السكارى ..
تلك الإقدام الموحلة التي تطأُ مدينتكم سنقطعها
في مدائنكم لم نكن نشاهد التلفاز بل نرصّف في الذاكرة كل ثانية ألفَ صورة قذرة
حاولنا ألف مرة، أن نصنع اتفاقية سلام معكم ، وهبناكم مع الضريبة الفؤاد والحبّ ،
نحن في البحر سارية بين رياح الزرقاء، لكننا لن نحترق هذا الشتاء، ولن نرتجف هذا الصيف.
سيعتقل الماء دونكم الوجع والوحوش الشرسة،
الليل لن يكون بطعم منابركم الحوارية ، سينام في فراشه الوفير مع العذاب الذي قصفتنا به خطاباتكم