رحلة فكرية مع الكاتب والشاعر و الناقد العراقي د. حاتم الصكر
الجزء (1)
حوار: دنيا صاحب – العراق
في هذا الحوار المتميز، نصحبكم في رحلة فكرية ممتعة مع الدكتور حاتم الصكر، الكاتب والناقد العراقي الذي يجمع بين عمق الفلسفة، ورصانة النقد وجماليات الأدب والفن.
لقد أثرى المشهد الأدبي بإبداعاته وتحليلاته العميقة ومن خلال تأملاته في النصوص الأدبية، ورؤيته النقدية المتجذرة في الأصالة والمعاصرة، يكشف لنا الدكتور حاتم الصكر عن رؤيته للفكر الإنساني، ودور المثقف في مواجهة التحولات الكبرى في عصر التكنولوجيا.
يحمل هذا الحوار في طياته دعوة للتفكير والتأمل في آفاق الإبداع والفن والأدب، ويضيء مساحات تتلاقى فيها الهوية الثقافية العربية مع قيم الحداثة، ليكون رحلة بين الماضي والحاضر، وبين التراث والتجديد.
§ في مشهد الأدب والنقد العربي، يبرز اسمكم كمنارة فكرية مميزة؛ كيف تقدم لنا بداية رحلتك الفكرية ككاتب وناقد ومفكر معاصر ؟
§ شكراً لك.أتمنى أن أكون كما وصفتْني كلماتك، لكني أعدّ نفسي كاتباً أتعلم وأقرأ بشغف المحب للشعر والمعرفة والأدب بدأت حياتي في الكتابة بالشعر شأن أغلب مثقفي جيلي ومبدعيه ومن سبقوهم، الشعر أقرب الأسلحة للنفس دفاعاً عن الوجود والرؤية والحرية والحلم
تنوعت في القراءة بسنِّ مبكرة وأنغمست في قراءة الشعر بتشجيع من الأسرة أولاً ومن معلّمينا ومدرسّينا، قراءة القصائد التي أحفظها، في الاصطفاف الصباحي من الصداقات التي اصطبغت منذ المراهقة بالقراءة ومتابعة الصحافة الثقافية، والمغامرة في تجربة الكتابة بطريقة الشعر الحر - كما اصطُلح على شعر التفعيلة التجديدي-.تأثر مشروع بالسياب والبياتي وخليل حاوي وشعراء المهجر قبلهم وجبران خاصة، ثم مغامرة النشر المبكر في الدراسة الثانوية ينشر لي مقطع على صفحة للقراء وناشئة الشعر، وتليها قصائد في صفحات أدبية مخصصة، وفي الجامعة تنشر لي مجلة الآداب قصيدة كرّست وضعي شاعراً في نظر الأصدقاء والزملاء والمعارف في الأقل.
الدراسة الجامعية أضافت لي الكثير اطّلاع منظم على تاريخ الأدب والنصوص من عصور مختلفة، وفنون البلاغة و علم النحو والعروض وغيرها لكن المادة الأكثر أثراً هي النقد الأدبي القديم والحديث حفزني ذلك على برمجة قراءات متسلسلة خلال الدراسة والعطلات الطويلة وبالاستعارة من مكتبة الكلية والجامعة واكتشاف المزيد من جماليات الأدب الموروث والحديث ملاحم ومطولات ومعلقات وكتب نقد مختلة المراجع .. كل ذلك وبحوث الدرس النقدي شجعتني بل جذبتني دون وعي للكتابة، ولكن عن الشعر أيضاً. وكانت البداية ببحث مطول عن المزايا الفنية في شعر السياب ربيع عام 1965.لم يكن قد مر على غياب السياب إلا شهور ومكتبته النقدية شحيحة، فكان بحثي الذي نلت عنه درجة امتياز حافزاً للإيغال في التجربة.
ستتنوع قراءاتي، وأنشط في الصحافة الثقافية في العراق وخارجه وتبدأ حياة أخرى بالنسبة لي وهبتُها للأدب بل غيرت مهنتي من التدريس إلى العمل الثقافي ما زاد من تركيزي وتغذية قراءاتي بالمزيد وجمعت بعض دراساتي في أول كتاب نقدي لي بعد ديوانين شعريين عنونته ب(الأصابع في موقد الشعر) 1986وهو دراسات تطبيقية وقراءات في دواوين وظواهر شعرية، كنت قد نشرتها في الصحافة الأدبية أو ساهمت بها باحثاً وكان ذلك التطبيق والتحليل النصي هو ما يميز رؤيتي في مجال النقد بين الزملاء، حيث ركزت مبكراً على قراءة المتون نصيّاً ونقدها وتحليلها . وسوف يتجذر ذلك بعد دراساتي العليا التي ظل موضوعها الشعر مكتوباً ومنقوداً ولا شك أن تجربتي الشعرية على تواضعها أمدتني بقدرة أفدت منها في تحليل النصوص الشعرية ورصد ما فيها من ظواهر ومضامين.
§ هل ترى أن النقد الفلسفي أصبح أكثر حاجة ملحة في فهم التحولات الفكرية في عصر الحداثة؟
§ أصدقك القول أني لا أطمئن كثيراً لصفة الفلسفي وصفاً للشعر ولا للنقد، سوف يتسم الشعر ببرودة وجفاف وإيقاع ثقيل حين يحاول الشاعر أن يجعله فلسفياً، الشعر والنقد عندها سيفقدان هويتهما الأدبية ولا تربح بهما الفلسفة شيئاً ثمة تفلسف وتصوف مثلاً في أشعار كثيرة قديماً وحديثاً: المعري وإيليا أبو ماضي وخليل حاوي وأدونيس ، وثمة قصائد للبياتي والسياب ونازك وعبدالصبور وغيرهم ذات منحى تأملي وتفكير في الأسئلة الكبرى كالوجود والموت والحب والحقيقة والزمن ومصير الإنسان.. لكنها لا تقدم ولا يتوجب عليها أن تقدم - فلسفة أو منظومة معرفية يمكن وصفها بذلك وليس هذا انتقاصاً من التجارب التأملية والتصوفية في الكتابة الشعرية ويسلط النقد ضوء القراءة والتحليل والتأويل عليها لكشف جوهر الرؤية فيها ويفككه لمعرفة مدى ملاءمة النظم لها وكيفياته فيصبح نقد الفكرة جزءاً من دراسةِ شعريةِ النصوص
وهذا أقصى ما يمكن للنقد أن يقوم به، وهو يعاين متوناً أدبية البنية
وذات جماليات خاصة، يبقى أن نضيف أن العلوم الإنسانية ومنها الفلسفة ، عدّة ٌ ضرورية للناقد كما للأديب ، وقد تغذي رؤيته وتلوّنها بأطياف من العمق في التأمل وصوغ التراكب المعبّرة عن الفكرة او قراءة تجلياتها في النصوص.
ويبقى أن أذكر أن النص هو الذي يفرض شكل المقاربة أو الممارسة النقدية. فإن كان ذا محمول تأملي وفكري، استلزمت مواجهته بقراءة مماثلة، تستقي من علم الجمال ومفرداته ما يعين على قراءته ونقده ولكن دوماً بمقاربة أدبية الرؤية والأسلوب.
§ دكتور حاتم الصكر، إلى أي مدى تعتقد أن الرواية الفلسفية اليوم تفتح آفاقًا جديدة في تناول الموضوعات والأساليب من حيث تنمية العقول والوعي الفردي والجماعي؟
§ جزء من إجابة السؤال السالف تصلح جواباً لهذا التساؤل. فقط أضيف أن ثمة روايات عُدت متأثرة بفلسفة ما، أو تحاول أن تعكس منظوراً فلسفياً- روايات لسارتر مثلاً وكامو ودستويفسكي وسيمون دي بوفوار وأمبرتو إيكو وكونديرا وباولو كويليو وبعض الروايات عن سير للمتصوفة والفلاسفة أو نظرياتهم ورؤاهم ، كما في روايات لأمين معلوف وإليف شافاق وعبدالفتاح كيليطو ويوسف زيدان وواسيني الأعرج وبرهان شاوي وغيرهم.
وفي ظني أنها نادرة ، ولا تحظى إلا بقراءات النخبة التي تمتلك خزيناً معرفياً أو خلفيات فكرية، وهي ذات أثر في القراء وتحفيزهم على تأمل حياتهم وواقعهم دون شك وغنى الشخصيات وعمق الأحداث تأتي من أطر وسياقات سردية ليست الأفكار الفلسفية أوالتأملات بالأحرى، إلا بعض دراسة الطبائع والرؤى ضمن الحدث السردي، وليس لبسط فلسفة محددة.
§ في كتابك أقنعة السيرة وتجلياتها ركزت على ثنائية البوح والترميز ما الفرق بينهما ؟
§ هذا هو عنوان فصل في الكتاب عن السيرة الذاتية النسوية ( البوح والترميز القهري-الكتابة السير ذاتية تنويعات ومحدّدات) 2014 ،ثم في كتابي (أقنعة السيرة الذاتية وتجلياتها) 2018 فقد وجدت نصوصها التي تعرضت لها بالقراءة والتحليل والتأويل تتأرجح بين الرغبة بالبوح بما في ذات الكاتبة، متشظياً في وعي شخصياتها النسوية بدرجات متفاوتة
بحسب السياق، أو الميل إلى استخدام الترميز نيابة عن البوح المباشر وهذا الترميز واضح الانصياع للخوف من المنع والقمع، فيتخذ الصفة التي وجدتُها مناسِبة له : الترميز القهري أي المقيّد في الكتابة النسوية بفعل قوة قاهرة متسلطة على الوعي تمنع البوح فتتقنع بترميز فنّي عالٍ يوصل الرسالة للمتلقي، بما تعاني المرأة في حياتها كنوع يعاني الإقصاء والرقابة الصارمة والتأويل الاعتباطي والنمطي ؛ كالمطابقة بين الكاتبة وشخصياتها السردية، أو استنكار ذكر أي فعل حر تقوم به امرأة في متون السرد
البوح رتبة عليا في الكتابة تتسم بالجرأة والصدق وتخطي الموانع والترميز صيغ استبدالية تنتهج الإشارة والإحالة تخلصاً من عبء تلك الموانع وإن تبلورت فيها الرؤية النوعية للكاتبة.
§ في كتابك (المرئي والمكتوب: دراسات في التشكيل العربي المعاصر) تناولت تأسيس الحداثة الفنية عربياً كيف ترى تأثير الرمزية والتجريد في أعمال الفنانين المعاصرين خصوصاً جواد سليم، شاكر حسن آل سعيد ، وغسان غائب؟
§ لقد وصل هؤلاء الرسامون إلى التجريد بعد رحلة بحث مختلفة ، مرت بمراحل تتراوح بين التشخيص و الانطباعية والواقعية والمدرسية أو الأكاديمية مع وجود لمسة أسلوبية خاصة بهم، أوصلتهم إلى اختيار التجريد أو الرمزية والحداثة الفنية بمعالجات متنوعة.
يبدو لي أن الفنان العربي يبدأ بأقرب ما إليه ، وهو الواقع والمرئيات أو البصريات المعروضة في البيئة والثقافة فيتمثلها ويعيد تمثيلها رسماً أونحتاً لكنه مع زيادة قراءاته وتأثره بمشاهدات من الفن العالمي ومدارسه الحديثة ونمو وعيه وإدراكه، يبدأ التفكير بمعالجة فنية متقدمة تعتمد التجريد كاختيار حداثي من جهة ولصلته بكثير من الموروثات البصرية كالنقش والتزويق والزخرفة من جهة ثانية.
أما تأثير ذلك في أعمالهم، فهو شاهد على تشربهم واستيعابهم لمغزى التجريد الذي لا يعني العشوائية وانعدام الرؤية أو العبث بالسطح التصويري، بل ينطوي على بُعد جمالي يضيف للأعمال قيمة وأهمية.
الرسامون العراقيون الذي ذكرهم سؤالك وبحثتُ تجاربهم في الكتاب وثم في ( أقوال النور) الصادر عام2007. يمثلون المغامرة الأسلوبية والرؤية التشكيلية المتقدمة عبر تحولاتهم ويمثلون إنجاز التحولات الفنية عربياً في النحت والرسم والحروفية والتجريد، والفن المفاهيمي بجانب عدد كبير من فناني العراق والبلدان العربية الذين تعرضت لتجاربهم بالنقد والإشارة والاستشهاد.
§ كيف استطعت أن توفق بين التحليل النقدي والتقدير الجمالي بأسلوب اكاديمي لأعمال الفنان غسان غائب في كتابك ( كن شاسعاً كالهواء) ؟وضح وجهة نظرك ؟
§ لغسان غائب حضور جيلي مختلف وإنْ تتلمذ عبر صلته بأساتذته، لاسيما شاكر حسن آل سعيد بشكل خاص وحميم، ورافع الناصري وضياء العزاوي. فقد انصرف بعد التجريد والفن المحيطي،إلى الأعمال المفاهيمية أو التركيبية، برؤية ثقافية بالدرجة الأولى عبر اعتماد المرجعية الشعرية المصاحبة لأعماله المبتكرة أو التي تمثل مركز انبثاق فكرة العمل والخارجة عن اللوحة بالمعنى التقليدي، وبالتلقي والعرض أيضاً
إنه يبتكر دوماً، ويخلق فضاءاته المميزة بشاعرية ومضامين إنسانية يستقي من القصيدة والحِكم الصوفية والواقع الإنساني جلَّ أعماله وعند تنفيذها لا يتوانى عن ابتكار جريء لتنفيذ العمل مصغّرات أو ملصقات أو مواد مختلطة وفي فضاء خارج حدود اللوحة والإطار والجماليات المعروفة في الكتب الشعرية والملصقات والصور والمواد البيئية والحياتية المركبة.
من هنا تركزت قراءتي على استمداده من الخزين المعرفي والعرفاني والشعري إنه - وهذا ماجذبني لأعماله - ذو حس فني مرهف يلتفت لما حوله في العالم: بشراً ومخلوقات ينفذ أعمالاً عن الظلم الذي يتعرض له البشر والقمع والعنف، والمعاني اللابدة في النصوص الشعرية التي يختارها بدقة وخبرة ويواصل تناصاته مع التراث الصوفي والروحي من هنا اتفقنا على تسمية كتابنا المشترك : كن شاسعاً كالهواء وهي مقولة للمتصوف المعروف بأشعاره جلال الدين الرومي ذلك هو الفضاء الشاسع الذي يشتغل فيه غسان بحرية وصدق ورهافة والذي جذبني للكتابة عنه وإضاءة بعض الجماليات والخلفيات الفاعلة في تجربته ومضامين أعماله ورؤيته.