البحث عن الذات عند فردوس النجار : قراءة في القصص القصيرة جدا
- تعتبر الشاعرة السورية " فردوس النجار من الشواعر اللائي أثبتن ألقهن في المدة الأخيرة ، وعلة ذلك ما اتسمت به كتاباتها من جمال وعمق .
- ولقد وقع بين يدي مؤخرا نصها الماتع" سيدي الحاكم " فعلقت عليه بما يستحق ، غير أن نصوصها على هذا المنوال البديع توالت فكان مجرد الأنطباع لا يؤدي حقا ولا يجلي جمالا
فانتويت أن اقدم قراءة موسعة لبعض هذه النصوص التي ظهر لي أنها من اجمل ما كتبت الأخت فردوس . هذه النصوص هي ما تعنونه الأستاذة دوما ب : "قصة قصيرة "وهي : سيدي الحاكم - يا الله - ياأمي - لأكون- شكوى الى الله .
ولعل اول ما يلفت في هذه النصوص سمات اهمها :
التكثيف:
-ولا اقصد هنا تلك المسحة البلاغية التي تتضمنها أغلب النصوص الشعرية ذات المسحة الفلسفية ، إنما ذلك " الضغط الرهيب" للمعاني في اوان يستحيل لنا أن نتخيل احتمالها لها وهو ماأسميه " جرعة التكثيف القاتلة " فكل قصة من هذه القصص تحكي رواية ضخمة عن الزمن والكون والخلق وووو أجمعين ......
كل قصة من هذه القصص تعويذة أسطورية تعاونت شياطين الشعر على صياغتها كما تقول العرب .
الدهشة : تشتغل الشاعرة في هذه النصوص – وباحترافية عالية- على عنصري الدهشة والأبهار : إذ تعمد أول الأمر ألى سحب قارئها في يسر عبر متاهات هذا النص القصير وفي منتصف الطريق تتخلى عنه تاركة إياه يعاني رعب الإشارات و فرار الدلالات في بيداء مترامية الأطراف في ليل موغل في الظلام ....مكسور التوقع يظهر هذا جليا في اللازمة التي اعتادت ان تختم بها نصوصها :
- سيدي القاضي ــــــــــــــــــ فقتلتها .
- يا الله ـــــــــــــــــــــــــــــ فاستفقت .
- سيدي الحاكم ـــــــــــــــــ فقط.
- يا أمي ـــــــــــــــــفاسترحت .
الى غير ذالك من اللقطات البديعة المحيرة .
-المسحة الفلسفية : للأستاذة – أضافة الى الحس الشعري المرهف – عقل واع .. وفلسفة عميقة متميزة في نظرتها للوجود ذلك ان حرفيتها مكنتها من وعي أن الشعرية الحديثة أصبحت حوارا شفيفا بين البلاغة والمنطق فالشعر الحديث كما تفهمه الشاعرة جمال يرضي الوجدان ورؤية ترضي العقل .لذلك وجدنا غالبية نصوصها – حتى الغزلية منها تتشح بوشاح الفلسفة القلقة ..فتأتي الأفكار آنئذ شبيهة بكلام القديسين وتراتيل الزهاد ..
رحلة البحث عن الذات :
- ذكرت الملاحظات الثلاث الآنفة كمقدمة تساعدنا على ولوج عالم فردوس النجار .
ثم أقول :
- لا شك أن المتامل لهذه النصوص يجد أنها حملت شحنات هائلة من القلق الوجودي والتوتر واللاجدوى واللامنطق و العبث و الوحدة والغربة والإغتراب ........... الى آخر تلك المفاهيم السوداوية التي تخيم على " الذات الشاعرة " .
وكل هذه القصص تجعل من الذات الشاعرة محورا ومركزا للعملية الإبداعية .... إنها بهذا القلق تبحث عن ذاتها ... عن ذات غريبة مفقودة وسط بيداء النكران والجحود ... ذات تتخبط وتعيش في وسط لا ولن يفهمها ... فتزداد عذابات هذه الذات وتكبرحيرتها .... حيث لامناص إلا أن تخرج هذه العذابات زفرات وآهات ساخنة سخونة المد العاطفي حين تحس الذات بقهرها .
- غير ان البحث عن الذات – الذي تكلمنا عنه في بداية البحث – يختلف من نص الى آخر أي أن الشاعرة في كل نص من نصوصها تبحث عن نمط مختلف للذات وهذا ما تفرضه التقلبات التي تعتري الذات المبدعة في كل أطوار حياتها لذلك سنلمس هذا التغير في نمط الذات المبحوث عنها في كل نص من هذه النصوص . ولا أريد هنا أن أسهب في الجانب النظري التجريد ي إذ مقصدي الأساس من هذا البحث هو الجانب التطبيقي حيث تتضح الصورة جلية للعيان أكثر من ذي قبل .
ولنبدأ بنص " شكوى إلى الله " :
شكوى إلى الله :
انـْزَلـَقـْتُ مِنْ ألـْسـِنـَةِ الأنبياءِ..فـَخـَرَجـْتُ والأرضُ مُشـَوَّهـَتـَيْن!
- في هذا النص تبحث الأنا الشاعرة عن ذات مقدسة قداسة التراتيل نزلت من المحل الأسمى والأقدس "ألسنة الأنبياء " وهي ليست أي ذات لأنها توأم الأرض حيث أدى انزلاقهما معا الى سقوطهما مشوهتين في عالم لا يعرف التعامل مع المقدس لما ران على قلبه من انكار المقدس والأيمان بالكثائف دون اللطائف .... الذات هنا تجعل نزولها – في تناص بديع مع النص القرآني – تجعل نزولها شبيها بنزول آدم عليه السلام من الجنة بعد الخطيئة نعم من الجنة دار الخلد والدعة نحو دار الشقاء والنكد ...
- ومايزيد من عذابات هذه الذات معرفتها بماهيتها وهي توأم الأرض تحمل ما تحمله الأرض من قدم وثبات في وجه الزمن وفي المقابل لا تجد من يضعها في منزلتها لذا كان العنوان قدرا لابد منه :" شكوى الى الله" ومن غير الله يخفف ألم هذه الذات .
- النص الثاني :
سيِّدي الحاكم :
حَمَلتُ النَّهرين على كتفَيَّ..
فَمِتُّ ابتهالا.. فقط
- الشاعرة هنا تبحث عن ذات " فاعلة " ذا ت قدمت الجميل لهذا العالم حين حملت همه وتألمت لألمه وسهرت على أوجاعه تريد هدايته طريق النجاة : حَمَلتُ النَّهرين على كتفَيَّ
لكن هذا العالم يعشق شقاءه وضلاله فلا يستجيب ...
- الشاعرة في هذا النص تقف أمام حاكم قاهرهو مناط النصرة -من المفروض - لكنه يحاكمها .. إذن فهذا الحاكم إذن من هذا العلم الشقي ؟؟فلا تنتظر عدله وهنا تتفاقم معاناة الذات حين يخيب ظنها فيمن بيده الحل والعقد ؟؟؟
تمتثل الذات أمام هذا الحاكم .. تعلم جوره لكنها تصيح بكلمة الحق : سيدي الحاكم .....
المهم أنها قالت وفقط .
- نعم يتعزز هذا القلق حتى تفنى هذه الذات سعيدة شهيدة قداستها ... نعم لم تفد الخلق لكنها حاولت وتأتي لفظة " فقط " التي تدل سيمياء الصوت فيه على الوقوف والسكون والهدوء الذي يأتي تباعا اثر فناء هذه الذات ورحيلها الى عالم اللطائف
النص الثالث :
ياااااااا أُمِّي: (قصة قصيرة جداً):
في الصَّيدَلِيَّةِ المَركَزِيَّةِ.. فَقَؤُوا
عيوني.. فَاستَرَحت
- هنا يتغير الخطاب من الذات المقدسة والحاكم الى" الأم "وما تحمله الأم في الذاكرة الإبداعية من حب وتحنان وووو .
- هنا تبحث الشاعرة عن ذات مهمومة بهم هذا العالم الشقي ... تحاول أن تساعده على تخطي علته فتذهب لجلب الدواء ولاتذهب لأي صيدلية بل الى الصيدلية المركزية لكي تجد الشفاء يقينا ... وفي الصيدلية المركزية تجازى على حرصها في طرد العلل عن هذا العلم "فتفقؤ "
عينها ....ماأشد قسوة الأخر وما أشد عشقه لدماره حين يفني منقذه ؟؟؟؟
- بالمقابل " تستريح هذه الذات حين تفقد عينيها نافذتها على هموم هذا العالم الشقي ... لن تتعذب بعد اليوم إذ لن تعرف مايجري وقد فقدت الحبيبتين .
وما أصدق المتنبي حين قال :
ذو العلم يشقى في النعيم بعقله .... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
النص الرابع :
سَيِّدي القاضي:(قصةقصيرة جداً):
في رَحِمِ أُمِّي.. كَبُرتُ.. وَتَثَاءَبتُ..
فَقَتَلتُها
- هنا تبحث الشاعرة عن ذات خيالية من زمن الأساطير ....ذات كبيرة من الأزل .. ذات لمجرد أن تثاءبت في مرحلتها الجنينية قتلت أمها ؟؟؟
- كبيرة هذه الذات التي حبل بها بطن العالم ليموت حين تتثاءب ومن أين له أن يعلم طبيعة هذا الجنين الخرافي ..
- الشاعرة هنا تشير من طرف خفي شفيف الى أنها لم تعطى فرصتها لتغيير هذا العالم الشقي وهي تملك سلطة خرافية حيث تثاؤبها فقط يقتل العالم ...
- تقف الأنا مرة أخرى أمام قاض لتجازى على حبها الخير لهذا العالم لكن لا يهمها حكم هذا القاضي فهي كبيرة كبيرة كبيرة
النص الخامس :
لأََِكُون: (قصة قصيرة جداً):
سارَالرعدُ ..بتسارع ٍ أحمق
انبلجت المسافة ُ للتـَّو
اصفرارٌ شبـِقٌ ..أسقط َ الأَرضَ بغتة ً
فـَحَمَلتُ يدي ..أهشُّ بها على غنم ٍ تهيم
- هنا الأنا الشاعرة تبحث عن ذات يئست من الآخر ...ومن علاته.. ذات أرادت أن " تكون " دونما مساعدة من الآخر ... ذات متمردة ترى من حولها قصف الرعد واصفرار الشفق و الأرض تطوى مسافاتها و أزمانها ... ذات عنيدة تقطع يدها لكنها تحملها لتهش بها على هاته الغنم التي تعشق البقاء خارج دائرة الحضارة ..
- كل هذا الزخم يتم في استدعاء جميل للنص القرآني :" قصة موسى عليه السلام " وتناص جميل مع رائعة درويش : " مديح الظل العالي "
- حين تيأس الذات من العليل الذي يعشق العلة لا ترى أمامها الا غنما شاردة على وجه البسيطة تنتظر جلادها لينقلها الى عالم النسيان
- حاولت منذ قليل أن أفتض بعض دلالات البحث عن الذات في هذه النصوص لكن اعتقد جازما أنه لن يكون هذا متناهيا مالم أشر الى اللغة التي حملت هذا السحاب الممطر من الدلالات والمعاني.
- قلت : لغة هذه النصوص تقوم على الأنساق القلقة حيث "المشاكسة " و " خرق قوانين اللغة " لا يحتاجان الى دليل ... لغة النص هنا توافق تماما المنج التفكيكي في افتضاض اللغة من خلال تدمير العلاقة المنطقية بين الدال والمدلول ومن ثم فالعلامات النصية هاهنا لا تمت بصلة الى مدلولاتها مثال ذلك :
- الحاكم هو إما :ـــــــ الله /الآخر / العالم .
- الأم ـــــــــ الوجود / العالم / الأزل / العدم .
- الغنم ـــــــــ الأخر / الجاهل / اللا متحضر .
- الصيدلية ـــــــ الله / العلم / الحكمة .
- اذن فهذه النصوص وحوش خرافية محاولة القبض عليها ضرب من المستحيل.
ما أردت أن أقوله من هذا البحث المتواضع أن الذات هنا واحدة لكنها تبحث عن صورها في مرايا مختلفة ... كل هذا يتم وفق منظور جمالي ذكي لا يزال رقراق النزيف فما أعظم هذه الشاعرة الدمشقية .
مع تحيات أخوكم : شاهين دواجي / الجزائر

الشاعرة الأديبة فردوس النجار هي شاعرة معروفة بدقة تعابيرها و تكثيفها للتعابير بما يخدم نصوصها الشعرية والقصصية بشكل تقني وبخبرة عالية، نصوص جميلة ومتتكرة، ودراسة جميلة من الأستاذ شاهين دواجي تحيتي وبالتوفيق دائما
ردحذفتصحيح مبتكرة بدل ( متتكرة ) في التعليق السابق
ردحذف