مطر مترفة..مطر شريد
خنقتني جدران الغرفة المطبقة على أنفاسي..بحثت عن الأحياء في عالم الرّاحلين، و ملّت نفسي الانتظار..روح عاصفة أنا..إنّه ضباب من أسى شفيف يغطّي روحي فجأة. نادتني زخّات مطر تنقر على بلّور نافذتي ترغّبني في التّلاشي تحت المطر وفي ولادتي في المطر. لم أمانع. تركت الغرفة و لم أبال بذلك الصّوت الذّي ضجّ بأعماقي،إنّه صوت أمّي التي طواها القبر و شربت تربته المطر توصيني:"تدثّري جيّدا فأنت مريضة البسي معطفك .."أمّي أنت هناك تركتني و رحلت إلى عالم الأحياء و تركتني مع الأموات فمعذرة أمّي لن أعمل بنصيحتك غاليتي فالمطر يناديني، أريد أن أتطهّر بقطراته الدّافئة مطر..مطر..ما أعذبه! أحبّه و أتمنّى استمراره،أصواته النّاقرة الضّاربة تثيرني فما أطيب السّير في المطر أوّل الليل أو عمقه! خرجت أركض إلى الشّارع. سرت على الأرصفة والماء ينزلق منها إلى سواقي روحي، الكلّ يسرع الخطى يريد اتّقاء البلل أمّا عنّي فأنا أعشق البلل و تخبّط رجليّ في البرك الصّغيرة المضاءة بألوان المصابيح وماء المطر يترقرق على خديّ فأهفو إلى نفسي أنشد مطر مطر...فمقلة السّماء تبكي و الغيوم تتخلّص من دموعها الثّقال لتسعدني و تملأني فرحا و حبورا بعد امتحاني لأثقال الحياة مجاهدة ما استطعت الجهاد.. هاهي السّماء ترحمني و تنتشلني من عذابات الجفاف إلى منابع الارتواء و إذا الرّوح تستفيق برعشة بكاء الغيوم..يا الله..خلعت معطفي ووجدتني في تناغم مطلق مع المطر الذي بعثني من رقادي و سباتي ثمّ طلّقت حذائي و جواربي و انتشت رجلاي بماء المطر السّائل المختلط بالطّين في السّواقي طين يحاول التطهّر من الطّين تلك أنا..لم يجرؤ أحد على إيقافي، فلا أحد له السّلطة على ذلك من بني البشر لا أحد يمنعني من التّعايش مع البلل المضئ بأعماقي...وقفت على أطراف أصابعي وقدماي ثابتتان إلى الأرض،بين السّماء و الأرض انا بين الطّين و النّور..و استحضرت أنشودة المطر للسياب:
فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء
كنشوة طفل إذا خاف من القمر
كانّ أقواس السّحاب تشرب الغيوم
وقطرة فقطرة تذوب في المطر
يا الله! ما أجمل هذا النّشيد تحت رعشة بكاء السّماء..درت حول نفسي و المطر يغطّيني و إذا صوت يقطع عليّ هيامي و انتشائي بالمطر طفل شريدناتئة عظامه مبلّل لا دثار له سوى سماء تجود قربها بماء المطر،كان يقف على قارعة الطريق و قارعة روحي يقرع صوت الضّمير في همس أشبه بالأنين:" هل لي بمعطفك سيّدتي؟ فانا ارتعش من البرد"..المعطف كان معي لا ادري أين ألقيته لم اعلم انّ هناك من يحتاجه ،توقّف انتشائي وإذا الرّعد يزمجر بداخلي:"أنّى لك الانتشاء و المطر برد و شقاء للجياع المشرّدين،خوف و انين" احسست بذلك الطفل يخاطبني متوجّعا:" إنّك سيّدتي تنعمين ببيت يظلّلك فيه دفء و اكل و الخروج إلى المطر هو عرس وجوديّ يغذّي روحك أمّا أنا فوطني البؤس ألتحفه لا ماوى ولا لقمة تسدّ رمقي فمعذرة إن قطعت انتشاءك بطلبي معذرة إن رغبت بمعطف القيت به" لم أتمالك نفسي فهرعت إلى معطفي لأدثّره به وصارت دموعي مطرا يوقظ فيّ ضميرا ومطرا من الحبّ و الرحمة بهؤلاء الضعفاء اخذته إلى البيت ،دثرته اكل فشبع لم أسأل عن أصله و فصله و نسبه فهويته واضحة المعالم أمامي والمهمّ أنّ كلانا من بني البشر و عصفت بقلبي أنشودة المطر للسياب:
في كلّ قطرة من المطر
حمراء او صفراء من أجنّة
الزّهر
وكلّ دمعة من الجياع و العراة
وكلّ قطرة تراق من دم
العبيد
في ابتسام في انتظار مبسم
جديد"
ويهطل المطر..و يهطل المطر..رحمة بالمستضعفين رحمة بالجياع المحرومين ثورة في وجه المستكرشين
بقلم: سهام الشبعان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق