آخر المنشورات

السبت، 28 سبتمبر 2024

القصيدة الومضة لدى الشاعرة التونسية أ-لمياء السبلاوي : تكثيف في اللغة..وقدرة على بلوغ لحظة الذروة والإدهاش.. بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 القصيدة الومضة لدى الشاعرة التونسية أ-لمياء السبلاوي : تكثيف في اللغة..وقدرة على بلوغ لحظة الذروة والإدهاش..


تصدير : التجربة الشعرية الغنية لدى الشاعرة أ-لمياء السبلاوي لم تنفصل عن حقيقة امتلاكها لرؤيا فلسفية متكاملة،مكّنتها من التجريب في نموذج القصيدة الومضة بنماذج متألقة تسجَّل لها.

 


تخير المفردات القليلة يحمل ثقل الدلالات المتوالدة عن هذا التكثيف ما يجعل القارئ يستحث ذاكرته القرائية والمعرفية لأجل الإحاطة بهذا الكم من الدلالات المكبوتة في إطار رسم الكلمات والتي تتفجر كلما قاربها المتلقي بالقراءة ليعيش الدهشة في كنف جمالية تفاعله مع النص.

ولأن واقع حال الشعر المعاصر هو واقع الرفض للقيود والتحرّر منها للبحث عن بديل للقصيدة القديمة،فإن لجوء كثير من الشعراء لهذا النمط إنما كان للتعبير عن هذا الواقع وإن لمسنا تواجده في تراثنا العربي من خلال التوقيعات.

غير أن حال قصيدة الومضة المعاصرة راجع لما لها من تأثير نفسي نابع من محاولة الشاعر اكتناز أكثر الدلالات ضمن إطار ضيق وكلمات أقل،كما تعد من وسائل القناع الذي يتخذه شعراء العصر إذ يمكنهم من تحميلها الدلالات المختلفة دون اللجوء للتصريح بها،ولعلها كذلك من وسائل إظهار تمكّن الشاعر وقدرته اللغوية الثقافية التي تبرز من كتابته لهذه القصيدة.

ومن الشاعرات اللاتي اعتمدن هذا النمط من القصائد في تونس،نجد الشاعرة أ-لمياء السبلاوي والتي تعد(وهذا الرأي يخصني) إحدى الشاعرات اللاتي سعين إلى التميز في كتاباتهن الشعرية،إذ أضفت على قصائدها جماليات جعلتها تنفرد عن باقي التجارب الشعرية الحداثية في تونس التي تسعى إلى التجريب والإبتداع والتفرد.

ومن الجدير بالذكر أن نؤكّد على أن الذين يتصدون لكتابة هذه القصيدة(الومضة/التوقيعة) يجب أن يتخرجوا أولا من كل المدارس الشعرية المختلفة قديمها وحديثها،بدءا من المدرسة العمودية وحتى ما يسمى الآن بقصيدة النثر،وللحق أؤكد أن شاعرتنا أ-لمياء ألسبلاوي قد تصدت لكتابة هذا النوع من الشعر باقتدار إذ تعلن بشكل غير مباشر عن اكتمال معينها الشعرى بكل أبعاده الفنية والإنسانية،وتعلن بشكل غير مباشر عن وصولها إلى قمة الهرم الشعرى والمعرفى. فشاعرتنا شدت إنتباهي بقصائدها الشعريه العذبة التي تصاغ بمهارة عالية،مكنتها من أن تحجز مكانا وثيرا داخل المشهد الشعري التونسي.

نعود إلى قصيدة الومضة عند أ-لمياء- ونختار بعض النماذج من إبداعاتها لتكون الدليل والبرهان على ما قدمنا.


الومضة الأولى:

تزوج نسر يمامة

وانجبا اسدا..

فألقى الجميع 

بسلة القمامة..

لا أحد غيره..

يخاف على الوطن..

فكاد له أعداءه..

وأدوا أحلامه...


والنموذج السابق متخم بالرموز  وشديد الإيحاء يمكن أن تفرد له صفحات فى عالم النثر،فكل سطر من سطوره يحتاج لمساحات كبيرة لشرحه وتحليله،كما أن هناك مساحات كبيرة مسكوت عنها أو متوارية بين السطور وعلى المتلقى أن يبحث عنها كل حسب مخزونه المعرفى ومنظوره الجمالى وقدرته على استنطاق النصوص.


الومضة الثانية:


إمرأة ساذجة..

جلست تحت 

شجرة وافرة..

تعد حبات الحب..

لتكون القسمة عادلة...

جاءها مسكين..

ينشد قصة خارقة..

فأعطته كل ما عندها 

ورحل .. الربيع..

لتصبح القصيدة جارحة..

في صحراء قاحلة..


إنها تجربة شعرية غاية فى العمق وآية فى الجمال،صاغتها شاعرتنا فى ثمانية وعشرين كلمة،ولكن بين هذه الكلمات آلاف من الكلمات والمعانى مسكوتاً عنها،وعلى المتلقى أن يتأمل ويبحث ويحلّل حتى يصلَ إلى ذروة المتعة الشعرية والتأملية..تجربة عميقة وقوية تم رصدها فى كلمات قليلة تحمل كل معانى وعطاءات التجربة بين سطورها،فالتجربة هنا كالومضة التى تلقى بأضوائها على من حولها ولمساحات بعيدة حسب ثقافة وفكر كل متلق.

الأثر الدلالي للومضة/ التوقيعة:

تأتي الجملة الشعرية المتشحة بالزي الفني بعد الصورة الذهنية،وأبرز ما يميزها التكثيف في اللغة،والتسلسل في السرد الشعري وصولاً إلى لحظة الذروة والإدهاش فتكون رسالة الشاعر ذات سمة انفعالية مولدة للوظيفة الإنتباهية لدى المتلقي.

حقيقة.. :

تلبدت السحب

لم ينزل مطر ..

وعمى العيون غُبار 

صفق الظلم طويلا

وكتبوا على وجه الحق 

انتحار...

هو عند الشياطين 

اختيار...


إن الإنسجام بين محوري الإختيار والتأليف،يكشف شعرية خطاب التوقيعة.وهو خطاب يضج بالثنائيات الضدية،والجمل المحولة من الصور الذهنية إلى الصور الخطية المنفية والمؤكدة.فجدلية الحياة لا تكون إلا من خلال ثنائيات الممكن والمستحيل،الرغبة والخوف..فالومضة شكل من أشكال الإنزياح الذي يباغت المتلقي ويخيب أفق انتظاره.فاللامنتَظَر هو تلك التركيبة الأسلوبية المتميزة القائمة على مصاحبة لغوية غير عادية.

والكتابة خطاب لا يمكن أن يتمرد دون وجود الآخرين.وهذا القلق يجعل الشاعر يمدّ يده إلى الآخرين محترقاً بالجمر،وقابضاً عليه.ولعل أهم ما يخرج به قارئ توقيعات الشاعرة الفذة أ-لمياء السبلاوي أنها تركّز على رد فعل قارئها،لتصل به إلى مرحلة القارئ المثالي الذي يشكل جملة قراءات ناجمة عن قدرة تأويلية لديه،محاولاً إبراز الوظيفة الأسلوبية "الومضة" التي تظهر أدق تشعبات الفكر.

زورق في وسط المحيط /وريح تبعثر الذكريات/يمينا ويسارا../القديم منها والجديد/وحوت كبير يلتهم العدل والحق /لا يحترم مشاعر../الغني ولا الفقير /الفلاح ولا الأمير../وهنا في هذه الحرب..يميز العارفون /بين الحقير والأصيل...اما قواعد اللعبة ..

فان من يصنعها/هو البصير العليم../لذلك نحن لا نخاف الحوت..

وان سمعنا للذئاب عويل../فاعصفي يا رياح النهاية../فما أنت الا بداية..لأمر جليل.../فعودوا للعظيم..

تمحورت حول هذه التوقيعة روح التحدي،والنزعة الإنسانية للتحرر والإنعتاق،والدعوة للعودة إلى رب العالمين،والإعتصام بحبله (لذلك نحن لا نخاف الحوت..وان سمعنا للذئاب عويل../فاعصفي يا رياح النهاية../فما أنت إلا بداية..لأمر جليل/فعودوا للعظيم )،فالصورة تكشف عمقها بطريقة لا شعورية،إذ تجعل اللغةُ الطبيعة فكراً،وتجعل المرئيَّ روحاً خفية،وتجعل للروح الخفية طبيعةً مرئية،فلم تتابع الشاعرة معنى محصوراً،أو مضبوطاً بل باتت تعبث باحترافية عالية بمضامينه بعيداً عن الصرامة والجدية،فتأتي الومضة من الفكرة الشعرية،لا من اللغة الواقعية.

وقد مثلت هذه التوقيعة حالاً شعورية في قالب دقيق يعتمد سيلان شريط قزحي من الصور التي تضفي إشعاعاً على فضاء النص النابض بهموم الفرد والجماعة،والحافل بأزمات الإنسان المسكون بمشكلات الظلم والظلام،تاركة انطباعاً في الشعور لا يمحى،وقائماً على الجمع بين المتقابلات والمتضادات بواسطة تيار من الأحاسيس المركزة.

ختاما،أؤكّد أن من يجرّب في أي جنس أدبي عليه أن يتمتّع بتجربة متكاملة وغنية،تخولّه تجاوز المرحلة الإبداعية،إلى آفاق التجديد..

وهذا ما حدث في حالة الشاعرة التونسية أ-لمياء السبلاوي مثلاً،وتجربتها الشعرية الغنية التي لم تنفصل عن حقيقة امتلاك الشاعرة لرؤيا فلسفية متكاملة،مكّنتها من التجريب في نموذج القصيدة الومضة بنماذج متألقة تسجَّل لها.

ومن خلال ما تقدّم نلحظ أنّ الشاعرة-أ-لمياء--حاولت أن تجعلَ قصائدها الومضة مرتبطة باللغة،ليس لكون هذا النمط يعتمد اللغة في تكثيفها وإيجازها وإيحائها وحسب،بل وأيضا كون اللغة ارتبطت في جزء منها بالنفحة الصوفية،فتضافر السببان ليجعلا من هذه القصائد صورة لحال من يمتلك اللغة وتمتلكه.

ولنا عودة لهذه الإبداعات الشعرية عبر مقاربة مستفيضة،ريثما يختمر عشب الكلام..


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق