آخر المنشورات

الاثنين، 9 سبتمبر 2024

جدلية العلاقة بين الأدب..ومواقع التواصل الإجتماعي بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 جدلية العلاقة بين الأدب..ومواقع التواصل الإجتماعي


                 (غربة النص..واغتراب الكاتب..!)


تصدير : القراءة..هي النبع الذي يرتوي عبره الكاتب


قد لا أجانب إذا قلت أن التقنية لعبت منذ منتصف القرن العشرين دورا كبيرا في تغذية وجدان الشعوب العربية وجعلها تمتطي سيرة "التحديث".

هذه التقنية الحديثة التي أفرزتها طفرة تكنولوجية مذهلة في عصرنا الحالي أدت إلى عوالم الإنسان الوجودية والإبداعية لجعل الأدب أكثر تحررا من سلطة الشكل،وأضحت معه مواقع التواصل الاجتماعي مساحات شاسعة للتعبير عن الرأي وتبادل الأفكار دون أي قيود تحريرية قد تفرضها بعض المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية.

ولكن،بقدر ما لعبت هذه الكتابات دورا رائدا في تحرير مخيلة الأدب العربي،فإنها في المقابل ظلت تمارس نزوعها إلى ما يعتبره البعض استخفافا واستسهالا لا يقود إلى بلورة مفاهيم وطرح أسئلة قلقة وحقيقية عن جوهر هذا الأدب العربي وعوالمه في عصر هذه الطفرة التكنولوجية.!

لقد جعلتنا وسائل التواصل الإجتماعي نعيش في مرحلة "كلّ إنسان كاتب"،وله الحقّ في أن يكون كاتبا،بمعنى أن يجعل حياته نصّا يقرأ منه متى يشاء.

الكاتب اليوم خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي،ليس معنيّا بتصنيف أدبه وتجنيسه وتهجينه،ولا شكّ في أنّ متابعة النقاد له تفرحه بأنّه اكتسب شرعيّة ما،أو أنّ مكرّسًا ما تبنّاه،أو أكاديميًا ما قرأه،أو أنّ جائزة ما أعطيت له،هذه كلّها حوافز،لكنّ التفاعل مع النص لم يعد حكرا على هذه الجهات،والنصّ المضيء جمالا وإبداعا لا يحتاج إلى أحد.

ومع انطلاق موجة العصر الرقمي،ظل الأدب يدور في نفس الفلك من الثنائيات بين الرفيع والمتدني، نظرا لبروز الثقافة المشاعية التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي،ولا سيما على صعيد التعاطي مع التقنية لتغدو المؤثر الأبرز في مجتمعات الاستهلاك، مما أنتج تراكما أدبيا إلى حد التخمة،وأضحت تشكل عائقا أمام استيعاب الافكار..!

وهنا تعود بي الذاكرة إلى الأزمنة الجميلة يوم كان الأديب يخضع إلى فحص أهل الخبرة في هذا المجال لكي يصنف أديبا،فالصحف لم تكن متاحة إلاّ لمن يمتلك اللغة والأسلوب.ومع تطوّر وازدياد عدد الصحف ودور النشر أصبحت الكتابة حكرًا على فئة معينة مع إقصاء من لا يمتلك مرجعًا يوصله لمتزعِّمي المشهديّة الأدبية. وفي تلك المرحلة الإنتقالية،أي ما قبل عصر التكنولوجيا،أصبح الأديب الكفوء يبذل جهدًا مُضاعفًا لإثبات حضوره،وفي الغالب كان ينجح حتى لو تأخّر في الوصول،لأنّ قدراته الأدبية كانت هي التي ترفعه على الرغم من كل العوائق التي منعته من النجاح والانتشار.أمّا مع وصولنا اليوم لمرحلة الصفحات المُتاحة ودور النشر الاستهلاكية أصبح لدينا أدباء مِمّا هبّ ودبّ،وهنا تجدّدت معاناة الأديب الأصلي ليُجاهد في سبيل اختراقهم.مع الوقت، الأمر بدأ يتفاقم فالذائقة الأدبية أصبحت تتأثّر بما هو متاح ولا تميُّز بين النص الجيد والنص السيء.يكفي أن يكون لأيّ أديب مستحدث بعضًا من نفوذ،وبعضًا من علاقات،وكثيرًا من متابعين ليتربّع على عرش الأدباء مع إقصاء كلّي لدور الناقد..!!

هؤلاء “الدّخلاء” على المشهديّة الأدبية حوّلوا الأدب إلى سلعة رخيصة حتى بِتّ حين تُعرّف عن نفسك أنك روائي” أو “أديب” لا يأخذك أحد على محمل الجدّ،بل أصبحتّ مُضطرًا لتتحدث عن نفسك وإنجازاتك في مجال الأدب لتُبرهن أنّ ما تقدّمه هو شغف جديّ وليس مجرد مكمّلات لزوم المظهر. 

 “الأديب المخضرم” العالق بين زمنين وحده من يعلم حقيقة ما يحصل،لأنّ “الأديب المُخضرم” لم تتأثّر ذائقته بالانحطاط الأدبي الحاصل لأنّها تأسّست على أمجاد أدباء الزمن الجميل. 

هذا الأديب،الذي قد تكون كتاباته آخر أثر من زمن الأدب العريق، يدفع أثمانًا باهظة كلفة هذا الانحدار.فالانحدار الأدبي تحوّل ليُصبح انحدارًا أخلاقيًّا عزّز التفاهةبكل تمظهراتها المحزنة..!

ماذا يعني هذا ؟

أن تكون أديبًا في هذا العصر والزمان يعني أن تجتهد وتُجاهد أضعاف ما اجتهد وجاهد أدباء الأزمنة الغابرة،كما عليك أيضا أن تحارب طواحين الذائقة الأدبية،وتقتلع الجهل من براثن مُدّعي الثقافة.قد يعتقد البعض أنّ هذا الرأي مُبالغ فيه لا سيما أننا نعيش في زمن التطور الذي أتاح منصّات الكتابة ومنابر الظهور للجميع دون استثناء.وهنا تقع الكارثة...!

واقعُ الأديب لم يكن كذلك يومًا في عصور النهضة والازدهار،ولم يكن كذلك يومًا في أوطان الغرب الذي لا يزال يكرم أدباءه ويُحيي ذكراهم..الأوطانُ المُتحضِّرة لا تنسى فضل أدبائها وعلمائها ومفكّريها في تأسيس هذه الحضارة.بينما لجأت بعض المجتمعات العربية لترسيخ مبدأ هدم التراث والأثر واللغة.وأمام ما يحدث،لم يجرؤ أحد على الصراخ عاليًا لمنع ما يحدث باستثناء قلّة لم تحتمل هذا التعدّي-وأزعم أني واحد منهم-.

وهنا أفتح قوسا :لو نظرنا إلى أدباء العرب الذين أسهموا في بناء النهضة الأدبية العربية من أمثال: العقاد،المازني،عبد الرحمن شكري أصحاب “مدرسة الديوان” لوجدنا ثقافة عربية أصيلة من جهة، وثقافة غربية مكتسبة أثّرت في نتاجهم الأدبي والنقدي من جهة أخرى.

وقبلهم كان: البارودي أحمد تيمور،محمود تيمور،أحمد شوقي، حافظ إبراهيم..ذوي ثقافة عربية أصيلة حصّلوها من خلال الكتب فضلا عن المخطوطات العربية،ومن نال جانبا من الثقافة الغربية رأيناه يبدع ألوانا جديدة في الأدب العربي كما فعل أمير الشعراء “أحمد شوقي” في المسرح الشعري وفي كتابة الشعر للأطفال متأثِّرا بالأدب الفرنسي.

واليوم ؟

الواقع الأدبي اليوم،يعاني من حالة انهيار في الأسس وفي القيم حتى أصبح واقعًا هزيلاً ونحيلاً تنقصه جرعات من المواجهة والعمل الجاد.

والنتيجة.. ؟

أصبحت مخالفة "القطيع"أمرًا مُستعصيًا،وكلمة الحق أمست تتطلب فوق الجرأة “النّخوة”.وأصبحت بالتالي الكثير من الكتابات -وهذا الرأي يخصني-غير مشتغل عليها معرفيا،وغالبا ما تأتي غير ناضجة كونها وليدة اللحظة وينشد أصحابها الشهرة والانتشار، وهي لا تحل بأي حال مكان الكتابة المتأنية المخدومة،فهذا النمط من الكتابة يبدو لي متناقضا مع مفهوم الأدب الذي يعالج القضايا ويطرح الأسئلة،ولا تبدو هذه المهمة ممكنة في كتابات عاجلة عفوية لا تنتج المعنى.وربما مما يوجد مثل هذا التباين العميق حول دور الوسائط والأدوات الجديدة اتصالياً ومعرفياً تجاه الكتابة،هو عدم وجود دراسة واضحة حولها تبلور مفاهيم الكتابة التفاعلية والأدب الرقمي.

وهنا أدعو النقاد،وكذا المشرفين على المواقع الأدبية الإلكترونية إلى التعامل-بصرامة أدبية-مع النصوص المراد نشرها،إذ لا يعقل أن يختلط الغث بالسمين،والحابل بالنابل،ويصبح لدينا أدباء مِمّا هبّ ودبّ،فالنقد الأدبي الصارم يدفع ب" المبدع"إلى إعادة النظر في نصه تعديلا وتهذيبا عبر مراجعة واعية ومدروسة،ومن هنا تنبثق حياة أدبية يتواصل فيها المبدع والمتلقي.

وهنا أقول استدراكا : الأدب ليس حكراً على أحد،ولعل في إمكان الهاوي أن ينتج أدباً جميلاً إذا أتيحت له فرصة المشاركة،أما الذين ينشدون الشهرة-وهم كثر-فهؤلاء لا يستطيعون الاستمرار،لأن الزمن كفيل بإزاحتهم،فوجود الأدب الراقي على مواقع التواصل الاجتماعي،يقلل المساحات الفارغة التي يمكن أن تستغل فيما لا يليق.

ختاما أقول : الإبداع يحتاج إلى عملية طويلة لإنتاج النص،وخبرة من خلال القراءة المتعمقة والاطلاع.وهذا أمر مفيد ليس من أجل الانتشار فقط،بل وكذلك لترقية الذائقة الفنية لدى المتلقي.

وأرجو أن تستساغ رسالتي جيدا..وأن لا يقع إخراجها عن سياقها الموضوعي..!

ولنا عودة قريبة إلى هذا الموضوع عبر مقاربة،أكثر إستفاضة.


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق