حين ترتدي القصيدة ثوبا مطرزا بالإبداع..في عيد الجلاء
( قصيدة الشاعرة التونسية السامقة د-آمال بوحرب " للجلاء عيد" نموذجا )
-"إن الشعر فنٌّ من الفنون الراقية.. والفن بقـــدر ما هو أداة تعبير عن هموم الإنسان،والدفاع عن قضاياه؛ فهو أداة اتصالٍ وتواصلٍ.. كما أنه لغة الوجدان..فالشعر لصيقٌ بحياة الإنسان،وبمسيرة الإنسانية،وبمصيرها" (ستيفن سيندر الشاعر والناقد الإنقليزي)
-أكتب لوطنك..كي تنعم بظلاله الوارفة ( الكاتب)
التجربة الشعرية للشاعرة التونسية المتمرسة -د-آمال بوحرب-غنية وحافلة بالعطاء الإبداعي والتنوع الموضوعاتي, كتبت عن الوطن (تونس) وعن الوَجد والحب بأبعاده الإنسانية والحياة والوجدان والقصيدة..ولكن قبل أن يخوض المرء في الحديث عن صورة الوطن في شعر-د-آمال-يجدر به أن يحدد تعريفاً لهذه المفردة التي لم تكن ذات حضور كبير في الشعر العالمي،والشعر العربي(1) كذلك.ويبدو أن بروزها أخذ يطفو على السطح،ضمن فهم جديد،في مرحلة نشوء الدول ذات الكيان السياسي المحدد جغرافياً. «والوطن بالمعنى العام منزل الاقامة،والوطن الأصلي هو المكان الذي ولد به الانسان،أو نشأ فيه.
والوطن بالمعنى الخاص هو البيئة الروحية التي تتجه اليها عواطف الانسان القومية.ويتميز الوطن عن الأمة (Nation) والدولة (Etat)بعامل وجداني خاص،وهو الارتباط بالأرض وتقديسها،لاشتمالها على قبور الأجداد»(2). ونقرأ في المعجم الفلسفي المختصر،تحت مفردة «الوطنية»،ما يلي : «مبدأ يعبر عن حب المرء لوطنه وعن استعداده لخدمة مصالحه.انها انشداد المرء الطبيعي نحو مسقط رأسه، نحو اللغة الأم والتقاليد الوطنية،واهتمامه بمصير البلاد التي ترتبط حياته كلها بها».
ونقرأ أيضا : « ولكن المشاعر الوطنية لا تأتي عن أسباب غيبية،من «صوت الدم» أو «العرق» كما يزعم المنظرون البرجوازيون.فهي تظهر تاريخاً،بتأثير ظروف حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية،ولذا فان مضمونها يتغير تبعاً لتغير تلك الظروف” وتحضر تيمة الوطن في قصيدة " للجلاء عيد".. للشاعرة التونسية المتميزة-د-آمال بوحرب-موضوع الدراسة،بشكل قوي ومهيمن،حيث تحتفي فيه الشاعرة بوطنها تونس وهو يرفل في عيده البهيج : عيد الجلاء -3،وتجعله في قلب الشعر والخيال والتفكير وفي قلب الأحداث،هو المحور المركزي وفي فضائه الأنا والجماعة روحا وجسدا."عيدُ الجلاء مسيرةٌ من الأمل/نُحقِّق فيه أحلامَ الأجدادِ،والأوطان/ببذلٍ وعطاء ننثرُ الأزهارَ../في حدائقِ الحرية/وفي قلوبِ الأجيال"
لا أجانب الصواب،ولا أرمي الورود جزافا-وأنا لست من محترفي المديح أصلا-إذا قلت :
حينما قرأت هذا النص توقفت عند عتباته المهمة من حيث التشكيل في الصورة والسينوغرافيا والالوان واللغة والمشاعر من جهة،،والابداع والتألق والانطلاق في عالم كتابة الشعر..
لغة الشاعرة التونسية اللامعة -د-آمال بوحرب-تتميز بالدلالات المتغيرة (غير ثابتة) لوصف الصورة التي تتشابك في ذهنها وخيالها،وتعصف لنا صورا شعرية متحركة..لأن الصورة الشعرية وبحجم الشاعرية التي تحملها تكون جوهراً للشعر،كما هي روح القصيدة التي تمتد من اول عتبة الى اخر عتبة لتثبت للقارئ الصلة بين الواقع والتأثير المهم جداً،لذلك تأتي الصور قوية ! كل مفردة لها خصوصية في حواس القارئ وشعوره،لأن فن الصورة مرتبط بمفهوم الفن لدى الشاعرة-د-آمال-..والناقد بطبيعة الحال يبحث عن الجمالي في الصورة وعن التجربة الفنية والحالة النفسية للشاعر..وايضا يبحث الناقد في مستويات الشاعر المتميز من حيث كيفية تجدد الصورة ونشاتها في فكره وخياله وعكسها للقاريء،لان الحواس وحدها غير كافية بتوصيل ما نصبو اليه، بالاضافة الى بحثه عن الانزياح اللغوي وتحديث اللغة عند الشاعر، وبين الذاتية والموضوعية نتوقف كثيرا،لأن حجم الشاعرية والانزياح اللغوي،وتشكيل الصورة الجديدة،وسعة الخيال والمخيلة وسائل نكتشف بها معايير مهمة لجمالية الصورة الشعرية عند اي شاعر،وهي بصراحة مفاتيح للناقد مهمة لتفكيك اي نص شعري،حتى نصل الى جوهر النص وجمالياته الفنية..
وخلاصة القول : الشاعرة التونسية القديرة-د-آمال بوحرب- لم تأتي بالصدفة ابدا إنما هي ثمار تجارب عديدة حاولت أن تمزقها لكنها كانت قوية من الداخل،حيث تمتلك الذائقة الشعرية لتبوح،تتكلم وتصرخ..ثم تبدع،فتداعب بمهارة الذائقة الفنية للمتلقي..
الصوت والكلمة والطاقة التي يمتلكها الشاعر ضمان كبير في تركيبة الصورة وانعكاسا لحياته،وبنفس الوقت انعكاس لمفهوم المكان-الوطن -لأن الزمان ماعاد يشكل شيئاً الآن..فالذاكرة تعتمد المكان اولا ثم تخوض في الازمنة لاحقاً،لتثبت من قبل الاسماء كدلالات معروفة للقاصي والداني،ومن اهتم بشأن الادب والتاريخ .
وهذا التقابل الفني بين واقع الشعر المعيش وبين ركام التاريخ يؤسس لوعي ولإحساس الشاعر في فكره ووجدانه بحب الوطن ومتابعة معاناة الناس..
"للجلاء عيد" نص شعري تتدفق منه مشاعر خليطة من قوتين أساسيتين هما الفكر الانساني الذي تحمله الشاعرة ونبضات قلب حساس رهيف شفاف،يشكلان قوة نابضة في دعائم النص،وهما في نفس الوقت الجسر الذي تعبر به الشاعرة-آمال-إلى الانسان القاريء وبالتالي تضيف تفاعلاً عضوياً في المجتمع،وبالمحصلة يتحول النص الى ثمرة جميلة فيها من التكامل الروحي والانساني..وتسكن في مخيلة القارئ ويتدفأ بها وبأحضانها ! كعاشقة،كحبيبة ! كمعشوقة،كمعشوق ! فالنص يسري على المذكر والمؤنث بنفس التوجهات،لأن الجميع يعيش داخل الاسوار..أسوار حب الوطن (تونس) وانا هنا بصراحة لا اتساهل في مسؤولية الكتابة النقدية من حيث المحاباة في الاصدقاء،كوني ولسبب بسيط لا اعرف الشاعرة التونسية-د-آمال بوحرب-عن قرب أبدا..انما أعرفها عن بعد لمتابعتي اعمالها الشعرية وما تكتب بالفن والادب وهذا من تخصصي انا ! وقد استحوذ علي هذا النص لأن أسجل له ما يستحق من حق واستحقاق وكنشاط ابداعي له ولتجربتها الشعرية وفي قصائدها المتعددة وهي إبنة تونس-مهد الثورات العربية-ابنة الشعر وابنة السرد والحكايا ومكامن الوعي الجمالي في العلاقة بين السحر في اللغة والشعر وما بينهما من انتاج للوعي المتجدد في فضاء وروح الشاعرة السائرة على درب العالمية بخطى ثابتة،إرادة فذة،وقلم شامخ،صارخ لا يلين..د-آمال بوحرب.
لنستمتع بهذه القصيدة التي تحمل إمضاءها:
للجلاء عيد
من عميقِ الحسِّ اناديكِ
يا تونسُ هل أتاكِ نبأُ الجلاء؟
اقف امام روابيكِ والأخضر يكسو سهولكِ
فيك تُورق الذكريات
تتراقصُ فوقَ الوجدان كأنغامِ العزف
أيامٌ عاتية،فيها أسود
خاضوا غمارَ القتال..
تحتَ سماءٍ تغطّيها غيومُ الظلم
صرخَ الحقُّ كالبرق،شقَّ ظلماتِ السجون
وفي كل زقاقٍ،دماً طاهراً رُوِي
لتنمو أشجار الكرامة بثمار العزِّ
صبرتم على الأوجاع ولم تُثنكم أزمات
شموخُ رؤوسِكم جُدرانٌ من سنديان
عيدُ الجلاء مسيرةٌ من الأمل
نُحقِّق فيه أحلامَ الأجدادِ،والأوطان
بذلٍ وعطاء ننثرُ الأزهارَ
في حدائقِ الحرية،وفي قلوبِ الأجيال
تاريخنا كبسولةٌ من المجدِ
حكاياتُ الأبطال،أسطورةُ الجبار
فلنُحيِ عيدَ الجلاء ونرتوي من العبر
يا تونسُ الخضراء،يا مهد العزّ
يا زهرَ الياسمين، كَ دموعي هدية
عبراتُ قلبي تنسابُ،لوطني العتيق
مستقبل بيدِ الأحرار يقول لا للخضوع
وهذا الضوءُ في فجرٍ مشرقٍ يعلو
يعلن عن يومٍ جديدٍ من النصر
يدٌ بيد،نبني الأمل المنشود
نُعيدُ لتونسَ الفخرَ وللشعبِ الأمان
ففي قلب كلِ طفلٍ شغفٌ وحنين
لأيامٍ مضت،ولأرضِ الحرية
للجلاء عيد يجسد الأحلام
يمتد عبر الزمن ينساب عبر
المقل ليزهر الوطن
د/آمال بوحرب
تونس
على سبيل الخاتمة :
تعتبر الشاعرة التونسية القديرة د-آمال بوحرب من أبرز الشعراء الذين أعطوا للوطن بمفهومه القومي والوطني رمزية خاصة في أشعارها.ومما زاد في أهمية موضوع الوطن ( تونس) غربتها عنه ( مقيمة بالإمارات العربية المتحدة في إطار التدريس-أستاذة جامعية ) مما أعطى للوطن تيمة خاصة في أشعارها.لقد أعطت شاعرتنا من قريحتها الجياشة وفصاحتها ولوعتها لهذه التيمة-الوطن-كل ما تملك من تصوير فني وخيال واسع وعاطفة صادقة وشوق وحنين..فهي تتألم لآلامه وتفرح لآماله وتنشد ازدهاره وتطوره وتألقه بين الأمم،وتؤرخ بالتالي لنضالاته،وبطولاته ودحره بالتالي للإستعمار على غرار القصيدة التي عرضناها ضمن مقاربة متعجلة.
لها مني تحية تعبق بعطر قرطاج،وأريج تونس التحرير.
محمد المحسن
المراجع:
1-لم تتكرر كلمة وطن كثيراً في الشعر العربي.وفي لسان العرب المحيط للعلامة ابن منظور،وهو معجم لغوي علمي قدم له الشيخ عبد الله العلايلي وأعده وصنفه يوسف خياط ونديم مرعشلي.ورد التعريف التالي لمفردة وطن : موطن: اقليم يتسم بخصائص طبيعية تلائم احياء معينة. بيئة: مكان له ظروف خاصة يستوطنه بعض الأحياء مثل ساحل البحر والغابة والمستنقع. الموطن الأصغر: هو الموطن البيئي الخاص الذي يعيش فيه كائن ما. موطن الأصل : موطن الشخص عند ميلاده.
2- انظر : جميل صليبا،المعجم الفلسفي، بيروت 1982. ج2 ص 580.
3-عيد الجلاء هو عيدٌ يحتفلُ به التونسيون في يوم 15 أكتوبر، وهو تاريخ جلاء (إخراج) آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسية يوم 15 أكتوبر 1963.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق