" سفر... على نار باردة " قصيد للأديبة و الناقدة كوثر بلعابي في رؤية للشاعرة لطيفة الشامخي.
*- النار: لغة: تقال للهب الذي يبدو للحاسّة، و للحرارة المجرّدة و للحرارة المحرقة.
و النار هي احتراق لمادة قابلة للاشتعال في وجود الأكسجين و تتجلّى في شكل لهب.
و التعريف حسب موسوعة التفسير الموضوعي: " النار: النون و الواو و الراء، أصل صحيح يدلّ على إضاءة و اضطراب و قلّة ثبات و منه النور و النار ، و النار مؤنثة و تصغيرها نويرة، و جمع النار: أنيار."
*- أما النار الباردة: فهي اللهب البارد وهو لهب له حرارة قصوى لا تتعدّى ( 400 درجة مئوية؛ 752 درجة فهرنهايت) وهو لهب بدرجة حرارة نموذجية، و عادة ما ينتج عن تفاعل كيميائي معين عن طريق خليط الوقود و الهواء.
و النار الباردة تحرق بشكل مختلف عن الاحتراق العادي و يمكن للنار الباردة أن تحرق نفاياتها، و تعتبر النار الباردة الزرقاء أشدّ أنواع النار حرارة و احتراقا على خلاف النار البرتقالية و الصفراء.
و أمام هذه التعريفات التي جاء بها أخصائيو البحث في الطاقة، فأي أنواع النار التي سافرت عليها الشاعرة كوثر بلعابي في قصيدها "سفر... على نار باردة"؟.
تفتتح الشاعرة قصيدها ب :
" نلوذ بغربتنا في دروب المدينة "
و جاء الفعل (لاذ.. نلوذ) في صيغة الجماعة (نحن) و هذا أسلوب عربي جائز في صيغة المتكلم الفرد.
و لاذ: من مرادفاته، أوى- احتمى - استجار- اعتصم - تحصّن - تعقّب - طارد - عاذ - فرّ - لجأ - هرب،
و كل هذه المرادفات تصب تقريبا في معنى واحد، و قد جعلت الشاعرة ذاك الفعل بكل مفاهيمه لتعبّر عن حالها وهي تجوس في دروب المدينة الواسعة تتحصّن بغربتعا و تحتمي بها و تأوي و تلجأ إليها و في نفس الوقت هي تهرب من تلك الغربة و تحاول أن تنأى عنها بتمشيط دروب المدينة عساها تجد فيها الأنس و شيئا يبرد النار التي تضطرم بداخلها تلسعها و تجردها من دفء الرفقة من أناها التي وحدها سند لها في غربتها، غربة جاءت بعد "القرار الصعب" حسب قولها:
" نذكر يوم القرار العصيب..
يوم طفقنا نخامر بعض التحدّي
و صبر المغامرة و السفر.."
و هذا القرار في حدّ ذاته و صعوبة اتخاذه نار باردة إذ لم يكن أمام الشاعرة من خيار إلا أن تحترق بلهبها، فنجدها تحزم حقائبها على "الوجع" و بعض "قطوف" شحيحة لا زهر فيها و لا ثمر، و ذاك ما عبّرت عنه بقولها:
" لا شيء حزمنا عليه الحقائب
سوى وجع و قطوف ضنينه..
و خضنا غمار الرحيل..
هنا مثلث النار أطبق على الشاعرة، نار الوجع و نار "القطوف" الشّحيحة و نار الرحيل، وهي في احتراقها أمام محتوى حقيبتها تستقبلها نار الغربة و لهبها البارد:
" آه.. يا حيرة الغربة
تلهث تحت غبار المدينة
.......................
و نحن على نارها الباردة
ننضُجُ.. كيًّا فكيًّا.. نحثُّ المسير"
آه.. تعبير عن عمق الأسى و الوجع من غربة تلتحف الغبار لتمدّ ألسنتها تكوي الشاعرة و تطهوها على لهب بارد، فتحثّ المسير تحت الضمير (نحن) لتقوى به و تشدّ عزيمتها.
" وهذي المدينة.. سرنا إليها
و قد أوجعتنا المسافات
و نحن حفاة.. على شوكها "
يا للمسافات الطويلة و أوجاعها تقطعها الشاعرة لتطرق باب المدينة و تسير في أرجائها حافية على الأشواك، و أي أشواك للمدينة، هل هي الغربة وحدها أم الوحدة أم صعوبة العيش أم فراق موطن الدفء و الحنين؟ فتقول:
"حيث.. على قسوة الإسفلت
نسير.. فرادى
و بين ألواح الرخام الصقيع
نَحنُّ فرادى"
هي الغربة و الصقيع و الطريق شائكة و الوحدة و نار الحنين،
" و في الروح نبضٌ مازال يهفو
إلى عُشّ فيه سكنَّا
و فيه أمِنَّا.. و فيه دَفِئنَا "
تجلّت معاناة الشاعرة مع احتراقها وهي " تطرق باب الحياة" بكل ما في الحياة من صعاب، أمام برودة الحياة في المدينة برودة "الرخام الصقيع" و قسوتها على الشاعرة، فأراها تلتقي مع الشاعر بدر شاكر السياب في قوله:
" يا غربة الروح في دنيا من حجر
و الثلج و القار و الفولاذ و الضجر"
فكلاهما يشكو الغربة الصقيع و إن عبّر عنها السياب بالحجر و الثلج و الفولاذ فقد عبّرت عنها الشاعرة بالرخام الصقيع، بارد برودة جسد الميت، لا روح فيه.
و تهفو نفس الشاعرة إلى قهوة ساخنة تبعث لها بأريجها و لكن الخيبة تلاحقها مع أنفاس الصباح الباردة، و قولها:
" يا صبحنا وسط هذا الصقيع
و قهوته التي لا أَرجَ فيها
و قِدحهَا وضيع الورق"
هكذا هي روح الشاعرة المعذبة في أرجاء مدينة كل شيء فيها بارد بلا طعم و لا روح حتى القهوة فقدت "أرجها" مع افتقادها للفناجين الجميلة و أصبحت تُقدّم في قدح من ورق بارد لا جمال فيه و لا دفء، و تغرق الشاعرة أكثر فأكثر في حصر ما حولها من مظاهر الحياة فتقول:
" ما أبرد الحب وىالموت
بين رموس المدينة.."
هنا ترى الشاعرة و أن المدينة التي عقدت عزمها على الرحيل إليها محمّلة بالحلم و الأمل و بين عينيها هدف عقدت العزم على تحقيقه لم تجد فيها إلا مقبرة للمشاعر الجميلة و الأحاسيس الدافقة يتساوى فيها الحب و الموت و تفقد فيها الأغنيات روحها:
" و أغنية لا روح فيها
تحجبُ عنَّا مدانا البديع
و عزما أرهقه في الزحام
ضجيج الطرق "
ضاجّة المدينة رغم برودة كل شيء فيها لكن هذا الضجيج يزيد من عمق الاغتراب عند الشاعرة لأنه ضجيج يرهق عزمها و قد يحيله إلى الوهن و يزداد ثقل كاهلها بقرار اتخذته لتطارد حلما كبيرا و تسعى بكل أمل لتحقيقه و الظّفر به، و يظهر ذلك في قولها:
" يوم طفقنا نخامر بعض التحدّي
و صبر المغامرة و السّفر..
و حلما شريدا بنيناه
بطوب الطّموح و ماء الظّفر.."
و كأنّ المغامرة تكشّفت عن خيبة و لم تلتق الشاعرة بسحر الحكايات التي سمعتها عن المدينة فلم تجد إلا "بيوتا قديمة أضاعت ملامحها و الوعود".
و في وسط هذا كله تبقى الشاعرة وفيّة لحبها الكبير الذي وعت عليه منذ نعومة أظافرها، حب هذا الوطن،
" حَنَونَا على زهرة فاتنة
ترعرعت وسط قلب شفوق
شغوف بحب الجمال
بحب الأنام.. بحب كبير.. كبير
لهذي البلاد.. حتى الهيام
و إن ضرّجته كُلومٌ ثخينة.."
و هذه نار نموذجية في كيّها وهو حب هذا الوطن الذي "أثخنته الكُلُوم" و زرعوا الأشواك في طريق كل من أراد إصلاحا، و نرى الشاعرة متوجعة في غربتها الروحية و وهم السباق للظفر بالفرح و الأمل بالنأي بهذا الوطن عن التنازع، و يظهر ذلك في قولها؛
" اغتربنا.. و نحن.. وهمًا..
نجُوبُ سماء المدينة
هربنَا من شوكِ أرضها و الحُفَر..
و تهنَا نُلاحقُ سرب سراب
و بعضَ أفراحنا التي بدّدتها
رُكُومُ خيباتِنا و السّفر
ركبنا القاطراتِ زمانا سريعا
و رُحنَا نُسابق ريح التنازع
سبقا مريعا"
تبدّدت الأفراح أمام الخيبات لملاحقة السراب رغم المحاولة بالابتعاد عن طريق الأشواك و حفر الطريق التي قد تبطئ الخطى لكن السباق في حلبة زمن رحاه تدور بسرعة فائقة لم يخدم تطلعات الشاعرة ، لتأتي لحظة الوجع الكبير و الانكسار فينتابها هاجس موتها المعنوي و موت حلمها لتقول:
" لو كنّا نعلم موعد موتنا
و أنّا سنُقتل في سجن أسوارها
بردا و وجدا و حقدا
لاخترنا ظرفا يليق بنا..
لاخترنا موتا يليق بنا.."
و كأن بالشاعرة تلتحم في وجعها بوجع الوطن، و لم تكن المدينة إلا رمزا للوطن، لذلك فهي تهمس بين حروفها أن احتراقها بنار الغربة و مرارتها و الوحدة لا شيء أمام احتراقها الذي يجرها إلى الموت احتراقا ببرود على وطنها و على حلم عاشت عليه و لم ير النور، و ترى أن قتلة الأحلام جبناء و يتحركون خفية و يأخذون ما يأخذون على حين غرّة،
" لأوصينا من قتلونا
أن يَشجعُوا عند أخذ القرار الأخير..
و أن يخبرونا "
و لا تريد الشاعرة أن تحترق و تودّع دون أن تلقي ببوحها لربوع أحبّتها "كما لو لم يحبّها أحد" فتكتب:
"و أن يُمهلونا و لو بعض وقتٍ
لِكَي نَخشع في الوضوء الأخير
لكي نهجُدَ في الصلاة الأخيرة
و نُسدي لبعض الرُّبوع وداعا
يليق بها.. و نخبرها
لأوّل مرّة.. و آخر مرّة
أنَّا اتخذنا لها في خبايا الضلوع
جِنانًا خصيبا يليقُ بها..
و أنّا.. ذخرنا في مخبإ من نبضنا
مكانًا قصيًّا حفيًّا لها.."
هكذا هي شاعرتنا تموت احتراقا بنار باردة نموذجية في احتراقها بين غربة الروح و أوجاع الوطن و "حمّالة الحطب بحبلها الزعاف" تخنق الحلم الكبير و تسجن الأماني في يوم تحطّمت فيه العزائم.. و تقول الشاعرة:
" و حمّالة الحطب تقفو بحبلٍ زعاف
خطانا الوهينة..
و لا أحد منها حمانا
و لا حَاولَ حتّى..
أن يمنع عنَّا أذاها و سُمَّ الضَّغينة "
و مادمت حمّالة الحطب تقفو الأثر لتقطع الطريق على السائرين على طريق الحلم يبقى السّعي هباء و اليوم لا رجاء من تحقيق أي عمل فيه، و يظهر هذا في قول الشاعرة:،
" يا يومنا كلّه يمضي هباء
إذ السّعي فيه يظلُّ أمانٍ سجينة.."
هنا قمّة الوجع و الاحباط عند الشاعرة، و هل هناك من سعيٍ لمن مات يصطلي نارا باردة حاصرته من كلّ الجوانب مشى على رماده حَدَّ الاحتراق؟
قصيدة الشاعرة كوثر بلعابي " سفر... على نار باردة " جاءت لتختزل الديوان في سطورها، و أنه من الجيّد أن عنونت الشاعرة ديوانها بعنوان هذا القصيد الذي حمل معاناة الشاعرة و أوجاعها كحاملة لقضايا الوطن و الإنسانية التي تشغلها و تكتوي بنارها سلاحها الحرف محمّلا بكل الحنين و الشجن الساكن فيها، تمشي به على نار باردة عالية الاحتراق " تَنضُجُ على لهبها كَيًّا فكَيًّا".." و لا نور أو معنى.. يُخضِّبُ بالدفء قلب الحياة الرَّهينة ".
القصيد: سفر... على نار باردة
نلوذ بغربتنا في دروب المدينة
و تأسر لبّنا المحموم فيها
حكاياتُ سحر و عشق تليد
لم نجلُها في صروف الزمان
و لا حتّى فينا..
نطرق باب الحنين
إلى رائحة الأرض منذ سنين
في ذلك الزمن البعيد
مع أهلنا الطيبين
نبحث عن مرآة فجر
تبزغ لوجوهنا من جباه الجبال
تسرج شغفا في الروح يسري
برشفة من دموع النّسيل
من بكاء بدا في أعين الثّمر
و في الروح نبض مازال يهفو
إلى عُشٍّ فيه سكنَّا
و فيه أمِنّا.. و فيه دفئنا
إلى نزر عطر.. مازال بعدُ يسكن فينا..
و نطرق باب الحياة
بين جدران المدينة الشاهقاتِ
حيث.. على قسوة الاسفلت
نسير فرادى..
و بين ألواح الرّخام الصّقيع
نحن فرادى
و نحلم خلف بيوت من قديم الزمان
أضاعت ملامحها
و وعود الغرام
و ما حملت من نقوش و زينة..
و عند محطات المدينة..
في غربة كتبتها الظّروف علينا
نذكر يوم القرار العصيب..
يوم طفقنا نخامر بعض التّحدّي
و صبر المغامرة و السفر..
و حلما شريدا بنيناه
بطوب الطّموح و ماء الظّفر..
لا شيء حزمنا عليه الحقائب
سوى وجع و قطوف ضنينة..
و خضنا غمار الرّحيل..
تلحّفنا عزما و صدقا
حنونا على زهرة فاتنة
ترعرعت وسط قلب شفوق
شغوف بحب الجمال...
بحب الأنام.. بحب كبير.. كبير..
لهذي البلاد.. حتّى الهيام
و إن ضرّجته كلومٌ ثخينة..
و هذي المدينة.. سرنا إليها
و قد أوجعتنا المسافاتُ
و نحن حُفاة.. على شوكها
و نحن وحيدون في شوقنا
قبلتنا عشق مُريد
لمعنى جميل .. لفعل أثيل
من القلب وَدَّ.. من الصدق قُدَّ
بكلّ ما منّا و كلّ ما فينا..
ما همّنا أن ظمَأنا اغترابا
ما همّنا أن وُئدنا
تحت صقيع جدار مهيص
و نحن عزما على أن نسير
إلى حيث الورود تميس
عرائشها من حروف حزينة..
و هذه الغربة تأخذ منّا
مع كلّ خطوة شوقٍ.. و شوكٍ
حلما و عمرا..
و تنفث من طعم حنظلها
ما يخذُلُ دفق المداد النّقيّ
ما يُلهجُ الحرف فوق البياض البهيّ
و يُثني الحياة أن تُسعفَ
حتّى ذَمَاءَ من الصدق فينا..
اغتربنا.. و نحن.. وَهمًا..
نجوب سماء المدينة
هربنا من شوكِ أرضها و الحُفر..
و تهنا نلاحق سرب سراب
و بعضَ أفراحنا التي بدّدتها
رُكُومُ خيباتنا و السفر
ركبنا مع القاطراتِ زمانا سريعا
و رحنا نسابق ريح التنازع
سبقًا مريعا
و من حولنا عيون زجاج
لا روح فيها
و لا نور أو معنى في مآقيها
يخضّب بالدفء قلب الحياة الرّهينة
آه.. يا حيرة الغربة
تلهث تحت غبار المدينة..
يا فكرة من وجود وضيء
سحقتها رحًى من مخالب
و صادتها في العمق شراكُ العناكب
و نحن على نارها الباردة
ننضُجُ.. كيَّا فكيًّا.. نحثّ المسير
و حمّالة الحطب تقفو بحبل زُعاف
خطانا الوهينة..
و لا أحد منها حمانا
و لا أحد حاول حتّى..
أن يمنع عنّا أذاها و سمَّ الضَّغينة
يا صًبحَنا وسط هذا الصّقيع
و قهوته التي لا أَرجَ فيها
و قِدحِها وضيع الورق
و أغنيةٍ لا روح فيها
تحجُبُ عنَّا مدانا البديع
و عزما أرهقه في الزّحام
ضجيج الطّرُق..
يا يومنا كلّه يمضي هباءً
إذ السّعي فيه يظلُّ أمانٍ سجينة..
ما أبردَ الحب و الموت
بين رموس المدينة..
لو كنّا نعلم موعد موتنا
و أنّا سنُقتل في سجن أسوارها
بردا و وجدا و حقدا
لاخترنا ظرفا بليقُ بنا..
لاخترنا موتا يليق بنا..
لأوصينا من قتلونا
أن يشجَعُوا عند أخذ القرار الأخير..
و أن يُخبرونا
و أن يُمهلونا و لو بعض وقت
لكيْ نخشع في الوضوء الأخير..
لكيْ نَهجدَ في الصلاة الأخيرة
و نُسدي لبعض الربوع وداعا
يليق بها.. و نُخبرها
لأوّل مرّة.. و آخر مرّة
أنّا اتخذنا لها في خبايا الضّلوع
جنانا خصيبا يليق بها..
و أنّا ذخرنا في مخبإ من نبضنا
مكانا قصيًّا حفيًّا لها..
و أنّا وذرناها فيه من غصّة هذه الغربة
صبرا و جمرا و سِرًّا دفينا..
و أنّ كمَدَ الوجد وحده آنسنا في دروب المدينة.
كوثر بلعابي - ديسمبر2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق