ثنائية الشعر المعاصر العراقي بين الحبوبي و الجواهري /
بقلم : السعيد عبد العاطي مبارك الفايد - مصر ٠
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
هزَّت الزورآء اعطاف الصَفا
فصفت لي رغدةُ العيش الهَني
فارعَ مِن عهدك ما قد سَلفا
وأعِدْ يافتنة َ المُفتَتِن
عارض الشمسَ جبيناً بجبين
لنرى أيكما أسنى سَنا
وآسب في عطفك عطفَ الياسمين
وآنثن غصناً إذا الغصنُ انثنى
( الحبوبي من موشح : يا غزال الكرخ )
===
حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني
يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به
لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين
( الجواهري من قصيدة : يا دجلة الخير )
عندما نقلب في ديوان الشعر العربي بين ظلال عصوره منذ النشأة حتى مراحل أزدهاره نتوقف مع الشعر العراقي و لا ننسى سوقه الشعري ( المربد ) و عمالقة الشعر و أساطين الأدب إلى عصرنا المعاصر ٠٠
حيث نتأمل ثنائية الشعر العراقي المعاصر بين الحبوبي الفقيه الشاعر و الجواهري نهر العراق الثالث و شاعر العرب الكبير ، فحينما نطالع مسيرتهم الشعرية و الأدبية و الدينية و السياسية نلمح مدى عمق الشخصية و تأثرها بواقع الأحداث مع عمق اللغة و الخطابة و حب الوطن و معايشة الاجتماعيات و المناسبات الوطنية و الاضطهاد و غربة الذات و المنافي ، بل و الانخراط في معية الطبيعة بكافة ظواهرها هكذا ٠٠
* فهذا عالم الشاعر سعيد الحبوبي :
نشأ الشاعر و الفقيه العراقي محمد سعيد بن محمود بن قاسم العطيفي الحبوبي في مدينة النجف الأشرف بين (16 أبريل 1850 - 14 يونيو 1915) (4 جمادى الآخرة 1266 - 2 شعبان 1333)
ودرس بالنجف و درس الأدب على خاله عباس الأعسم، ثم رحل إلى حائل في نجد سنة 1864 مع والده للعمل ثم عاد إلى النجف سنة 1867.
واصل دراسته في مدارسها الفقهية، فكوّن تكوينًا اجتهاديًا مستقلًا. زامل جمال الدين الأفغاني أربع سنوات أثناء الدّراسة.
ثم تولى التدريس فصار إمامًا في الصحن الحيدري بالعتبة العلوية. كانت له مجالس أدبية ومحاضرات.
اشتهر بمواقفه ضد الاحتلال البريطاني في العراق، وقاد جيشًا من أبناء الفرات الأوسط للمقاومة ضد حملة بلاد الرافدين سنة 1914. توفي في الناصرية عام 1915 متأثراً بجروحه في معركة شعيبة ودفن في العتبة العلوية. له ديوان شعر طبع مرّات
الحبوبي موشحات كثيرة في اغراض مختلفة منها الغزل والنسيب والمدح وغيرها اذ تتميز بطابعها الفني وصورها البيانية والتجسيد للحقيقة واختيار الالفاظ القريبة والجميلة منها ما ورد في موشحته ( هاج برق السعد ) التي كتبها لتهنئة استاذه موسى شرارة لمناسبة زواجه، وصاغها هنا على طريقة موشحة ابن سهل الاندلسي ، ( هل درى ظبي الحمى ان قد همى )، يقول فيها :
هاجَ بَرقُ السَعدِ قَمَرِيُّ الهَنا فَتَغَنّى هَزجاً في هَزجِ
وَسَرَت بِاليَمنِ مِن رَوضِ المُنى نِسمَةً هَبَّت بِطيبِ الأَرجِ
وَحَمامُ البِشرِ غَنّى وَتَلا سَيرُ اللَهوِ بِنادي الطَرَبِ
قَد رَقى مِنبَرُ بانٍ وَاِعتَلى في مُروجٍ ( كَمُروجِ الذَهَبِ)
فَهوَ لا يَنفَكُّ يُملي لِلمَلا أَعنَقَت بِالحُزنِ عُنُقاً مَغرِبِ
بِغِنًا نَاهِيكَ فِيهَا عَنْ غِنى خَمْرَة اللَهْوِ بِهَا لَمْ تُمْزَجِ
ديوان السيد الحبوبي ( دار الشؤون الثقافية العامة ٠
و يقول سعيد الحبوبي في قصيدته المشهورة تحت عنوان ( يا غزال الكرخ ) الموشح الذي جمع بين مولده في المشرق و ترعرع في بيئة الأندلس مستلهما دفقات ابن سناء الملك لسان الدين الخطيب ٠٠
و من ثم نقتطف منه تلك هذه الأبيات التي تصور مدى عبقريته في هذا الفن الرفيع و جعل الكرخ الرمز البغدادي و بستان الزوراء نقطة انطلاقة :
هزَّت الزورآء اعطاف الصَفا
فصفت لي رغدةُ العيش الهَني
فارعَ مِن عهدك ما قد سَلفا
وأعِدْ يافتنة َ المُفتَتِن
عارض الشمسَ جبيناً بجبين
لنرى أيكما أسنى سَنا
وآسب في عطفك عطفَ الياسمين
وآنثن غصناً إذا الغصنُ انثنى
حبَّذا لو قلبُك القاسي يلِين
انما عطفك كان الأليَنا
فانعطفْ أنت اذا ما انعطفا
قدُّك المهزوز هزَّ الغُصنا
انّ في خدّك روضاً شغفا
مقلة الرآئي وكفَّ المجتنى
ياغزال الكرخ واوجدي عليك
كاد سري فيك أن يُنتَهكا
هذه الصهبآء والكأسُ لديك
وغرامي في هواك إحتَنكا
فآسقني كأساً وخُذْ كأساً اليك
فلذيذ ُ العيش أن نشتركا
إترع الأقداح راحاً قرقفاً
وآسقني وآشرب او آشرب واسقني
فلمُاك العذبُ أحلى مرشفا
من دم الكرم ومآء المُزن
مِن طُلا فيها الندىُّ ابتسما
إذ سرتْ تأرجُ في نشر العبير ٠
***
و نتوقف مع قصيدة أخرى للحبوبي بعنوان ( ما لقلبي تهزه الأشواق ) مصورا كيف انسكب الدمع مع حيرة الفؤاد في وادي العشق و لوعة الوجد في رسم صورة المتيم ، حيث يقول فيها :
مالقلبي تهزه الأشواق خبرينا أهكذا العشاق كل يوم لنا فؤاد مذاب ودموع على الطلول تراق عجبا كيف تدعي الورق وجدي ولدمعي بجيدها أطواق فأرحمي يأميم لوعة صد شفه الوجد بعدكم والفراق كاد يقضي من الصبابة لولا أن تحاماه في الوداع العناق دموعي وهي حر مرسلات وشت بي عند أهلك لا الوشاة أتنكر ياأخا القمرين لثمي وفي شفتيك من شفتي سمات فلو نزعت لحاضك عن قوسي لما أختارت سواهن الرماة قصيدة بعيشك إن ناجت سراك النواجيا بعيشك ان ناجت سراك النواجيا والذكوات البيض قدت المذاكيا فعرج على وادي الغري مناديا الا أيها الوادي أجلك ماديا تضمنت ميمون النقيبة حيدرا وأحرم ولب وأعتمر في جمعهم وأذكر ربارب سرحهم في جمعهم وأتل بذكرك آية في شرعهم وأحجج بأبناء الغرام لربعهـم واربع على دمن الخليط وخيف ٠
--------------
* ثم نتابع عالم الشاعر مهدي الجواهري :
نشأ الشاعر محمد مهدي الجواهري في النجف، في أسرة أكثر رجالها من المشتغلين بالعلم والأدب.
ودرس علوم العربية وحفظ كثيرًا من الشعر القديم والحديث ولاسيما شعر المتنبي. أشتغل بالتعليم في فترات من حياتهُ، وبالصحافة في فترات أخرى، فأصدر جرائد «الفرات» ثم «الانقلاب» ثم «الرأي العام»، أول دواوينه «حلبة الأدب» 1923م وهو مجموعة من المعارضات لمشاهير شعراء عصره كأحمد شوقي وإيليا أبي ماضي ولبعض السابقين كلسان الدين بن الخطيب وابن التعاويذي.
ثم ظهر لهُ ديوان «بين الشعور والعاطفة» 1928، و«ديوان الجواهري» (1935م و1949م - 1953م، في ثلاثة أجزاء).
يتصف شعر الجواهري بمتن النسج في إطناب ووضوح وبخاصة حين يخاطب الجماهير ، من خلال نزعة تمثل اتجاهاته الشخصية بعيدا عن المؤثرات و التيارات المناهضة المختلفة آنذاك ٠٠
من التيارات الأدبية الأوروبية وتتقاسم موضوعاته المناسبات السياسية والتجارب الشخصية، وتبدو في كثير منها الثورة على التقاليد من ناحية، وعلى الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تسيطر على الواقع ٠٠
و لِمَ لا فقد عاش فترة من عمره مُبْعَدًا عن وطنه، وتوفي بدمشق عام 1997م عن عمر ناهز الثامنة والتسعين عامًا.
ويتحدر من أسرة نجفية محافظة عريقة في العلم والأدب والشعر تعرف بآل الجواهر، نسبة إلى مؤسسها، الذي يدعى الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، وقد ألف الأخير كتابًا في الفقه واسم الكتاب «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام».
ومن هنا لُقِب بالجواهري، وكان لهذه الأسرة في النجف مجلس عامر بالأدب والأدباء يرتاده كبار الشخصيات الأدبية والعلمية.
وكان والده حريصًا على إرساله إلى المدرسة وأن يُدرَّس من أساتذة كبار يعلمونه أصول النحو والصرف والبلاغة والفقه. ويذكر أنه أشترك في ثورة العشرين ضد السلطات البريطانية.
وأول مجموعة شعرية له وهو في الخامسة والعشرين من العمر، كانت تحت عنوان "خواطر الشعر في الحب والوطن والمديح" تبعه إصدار أول ديوان شعري في العام 1928م بين الشعور والعاطفة.
يقول الجواهري في قصيدة ( دجلة الخير ) التي جمعت كل ما يريده في تلخيص فلسفته الجمالية بين ظلال الروح و الوطن في تناغم و التي مطلعها :
حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني
يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به
لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين
يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ
على الكراهةِ بين الحِينِ والحين
إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةَ
نَبْعاً فنبعاً فما كانت لتَرْويني
وأنتَ يا قارَباً تَلْوي الرياحُ بهِ
لَيَّ النسائمِ أطرافَ الأفانين
ودِدتُ ذاك الشِراعَ الرخص لو كفني
يُحاكُ منه غَداةَ البَين يَطويني
يا دجلةَ الخيرِ: قد هانت مطامحُنا
حتى لأدنى طِماحِ غيرُ مضمون
أتَضمنينَ مَقيلاً لي سَواسِيةً
بين الحشائشِ أو بين الرياحين؟
خِلْواً مِن الـهمِّ إلاّ همَّ خافقةٍ
بينَ الجوانحِ أعنيها وتَعنيني
تَهُزُّني فأُجاريها فتدفعُني
كالريح تُعجِل في دفع الطواحين
يا دجلةَ الخيرِ: يا أطيافَ ساحرةٍ
يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُرْجون
يا سكتةَ الموتِ، يا إعصارَ زوبعةٍ
يا خنجرَ الغدرِ، يا أغصانَ زيتون
يا أُم بغدادَ، من ظَرفٍ، ومن غَنَجٍ
مشى التبغددُ حتى في الدهاقين
يا أمَّ تلك التي من «ألفِ ليلتِها»
للآنَ يعبِق عِطرٌ في التلاحين
***
و في قصيدة أخرى بعنوان “آمنت بالحسين” للشاعر العراقي الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري ٠
و أرى إنها تعود بنا إلى المشهد الحسيني و مدى الصراعات التي تجعل تجربة الشعر في العراق متدفقة و متألقة ٠
و التي قد ألقاها في الحفل الذي أقيم في كربلاء يوم 26 تشرين الثاني – نوفمر 1947، لذكرى استشهاد الإمام الحسين رضى الله عنه ٠
نُشرت القصيدة في جريدة “الرأي العام” العدد 229 في 30 تشرين الثاني 1947 .
وكُتب خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيسي الذي يؤدي إلى الرواق الحسيني في مرقد الإمام الحسين ع في كربلاء .
و منها هذه الابيات هي :
فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ
بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ
وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ “الطُّفوف” وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْـرَعِ
وحُزْناً عليكَ بِحَبْسِ النفوس على نَهْجِكَ النَّيِّـرِ المَهْيَـعِ
وصَوْنَاً لمجدِكَ مِنْ أَنْ يُذَال بما أنتَ تأبـاهُ مِنْ مُبْـدَعِ
فيا أيُّها الوِتْرُ في الخالدِينَ فَـذَّاً ، إلى الآنَ لم يُشْفَـعِ
ويا عِظَةَ الطامحينَ العِظامِ للاهينَ عن غَـدِهِمْ قُنَّـعِ
تعاليتَ من مُفْزِعٍ للحُتوفِ وبُـورِكَ قبـرُكَ من مَفْـزَعِ
تلوذُ الدُّهورُ فَمِنْ سُجَّدٍ على جانبيـه ومـن رُكَّـعِ
شَمَمْتُ ثَرَاكَ فَهَبَّ النَّسِيمُ نَسِيـمُ الكَرَامَـةِ مِنْ بَلْقَـعِ
وعَفَّرْتُ خَدِّي بحيثُ استراحَ خَـدٌّ تَفَرَّى ولم يَضْـرَعِ
وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطُّغَاةِ جالتْ عليـهِ ولم يَخْشَـعِ
وَخِلْتُ وقد طارتِ الذكرياتُ بِروحي إلى عَالَـمٍ أرْفَـعِ
وطُفْتُ بقبرِكَ طَوْفَ الخَيَالِ بصومعـةِ المُلْهَـمِ المُبْـدِعِ
كأنَّ يَدَاً مِنْ وَرَاءِ الضَّرِيحِ حمراءَ ” مَبْتُـورَةَ الإصْبَـعِ”
تَمُدُّ إلى عَالَـمٍ بالخُنُـوعِ وَالضَّيْـمِ ذي شَرَقٍ مُتْـرَعِ
تَخَبَّطَ في غابـةٍ أطْبَقَـتْ على مُذْئِبٍ منـه أو مُسْبِـعِ
لِتُبْدِلَ منهُ جَدِيـبَ الضَّمِيرِ بآخَـرَ مُعْشَوْشِـبٍ مُمْـرِعِ
وتدفعَ هذي النفوسَ الصغارَ خوفـاً إلى حَـرَمٍ أَمْنَـعِ
تعاليتَ من صاعِقٍ يلتظي فَإنْ تَـدْجُ داجِيَـةٌ يَلْمَـعِ
تأرّمُ حِقداً على الصاعقاتِ لم تُنْءِ ضَيْـراً ولم تَنْفَـعِ
ولم تَبْذُرِ الحَبَّ إثرَ الهشيمِ وقـد حَرَّقَتْـهُ ولم تَـزْرَعِ
ولم تُخْلِ أبراجَها في السماء ولم تأتِ أرضـاً ولم تُدْقِـعِ
ولم تَقْطَعِ الشَّرَّ من جِذْمِـهِ وغِـلَّ الضمائـرِ لم تَنْـزعِ
ولم تَصْدِمِ الناسَ فيما هُـمُ عليهِ مِنَ الخُلُـقِ الأوْضَـعِ
تعاليتَ من “فَلَـكٍ” قُطْـرُهُ يَدُورُ على المِحْـوَرِ الأوْسَـعِ ٠
و في النهاية و بعد هذا العرض المطول كانت هذه القراءة بين شاعرين كبيرين من النجف الاشرف الجواهري امتدادا للحبوبي حيث اتفاق في قضايا سياسية و وطنية و اجتماعية و اضطهاد و مدى الصراعات ٠٠
و من ثم تركا لنا أثرا شعريا زاخرا بعملية الإبداع الفني نأخذ منه في تلاقي ، و من ثم نتذوقه من خلال دواوينهما التي تحوي خلاصة تجريبتهما في ترابط و تلاقي دائما ٠

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق