حين تصوغ الشاعرة الفلسطينية المغتربة الأستاذة عزيزة بشير معاناة شعبها بحبر الروح..ودم القصيدة
"اللغة كنز الشاعر وثروته،وهي ايضا جنيته الملهمة ومصدر شاعريته ووحيه" ( نازك الملائكة)
استوقفني هذا النص الشعري الذي يرشح بالمواجع،ويقطر ألما.. نص شعري ثوري،بل هو طلقات تنورية تسلط الضوء على معاناة شعب مسيج بالأكفان و يرزح تحت نير الظلم والطغيان..نص يروي بأسلوب إبداعي حيث الحروف تتعانق،والكلمات تتموسق في الجرح والطين ثم ترتفع لحنا حزينا في سماوات الكون..قلت يروي قصة إغريقية بطعم فلسطيني،بل يرسم لوحة درامية تعكس معاناة أهلنا في غزة..،غزة الحكاية والصمود والتحدٍي..
هو رسالة شاعرة عربية أنجبتها مدينة جنين الشامخة ذات زمن موغل في الدياجير،فسارت على درب الشهادة والإستشهاد شاهرة قلمها في وجه سماسرة الأوطان وباعة الضمائر في سوق النخاسة..
إني أتحدث هنا عن الشاعرة الفلسطينية المغتربة الأستاذة عزيزة بشير..هذه الشاعرة التي تنزف بصمت،وتصرخ بصوت مشنوق وهي ترى أهلها في فلسطين ينهشهم الجوع ويحصد رقابهم الرصاص المنفلت من العقال في زمن فقد فيه الحكام العرب الطريق إلى الحكمة..!
قصيدة طافحة بالمواجع،كادت أن تخرجني عن مألوف الرجال وجميل صبرهم لولا بقية حياء عربي ورثته عن أجدادي..
وأدعوكم لقراءتها راجيا أن لا تغسلوا حروفها بالدموع..
*ضاقت موانِي الرّزقِ واشتطّ النَّوَى
إجتمع على الثلاثة التّشرّدُ والفقرُ والضّياع :أختان تتساندان للبحث في الحاوية عن بقايا طعام وجدّةٌ تنتظر ما جادتْ بهِ:
ضاقت موانِي الرّزقِ واشتطّ النَّوَى
وَتَكالَبَتْ كُلُّ المصائبِ …..والطّوى
وَتَعَثّرتْ بِهِمُ الطّريقُ لِمأمَنٍ
لا بيْتَ يُؤوي ذَا المُهَجَّرَ ، …..لا دَوا!
والعِلْمُ وَلّى بالتَشرّدِ والدِّما
والموْتُ فِيهِم قد تنَوّعَ ….واسْتَوى
لا مَاءَ يَرْوي ، لا طعامَ يُقيتُهُمْ
فالعِزُّ ولّى بالقنابِلِ …….وانطَوى !
فتَسابَقوا للحاوِياتِ ؛ لِيَبْحثوا
عَنْ كِسرةٍ لِلخبزِ …….أَوْ أكلٍ هَوى !
طالَ انتظارٌ للعجوز بِوِقفَةٍ
والحِمْلُ زادَ على الصغيرةِ مَعْ طَوى
كُلٌّ تضافَرَ ؛ كيٍ يَلوذَ بِلُقمَةٍ
مِنْ حاوِياتٍ للغَنِيِّ وَلَوْ …….. نَوا !
وَلَكَمْ بكيْتُ وقد سَمِعْتُ نِداءها
تَعِبَتْ، وأُختُهَا والعجوزُ ، ..وَقَدْ دَوى
صَوْتٌ،لأهلِ الخيْرِ يطلُبُ خِدمَةً
فالحالُ صَعْب ٌوالجميعُ قد اسْتَوى:
-"يا مِنْ يَزيدُ طعامُهُ وشَرابُهُ
أُشكُرْ ، ولا تنسَ الفقيرَ ….فَقد ذَوى
لا تُلْقِهي في الحاوياتِ ، وَدَعْهُ لي
فلقد تعِبْتُ وَما وَصلْتُ…. لِمُحْتَوى
وَلَئِن رمَيْتَ ، فَلا يَكُونُ مُبَعْثراً
فَيَدي صغيرةُ ، ظَهْرُ أُخْتِيَ… قد لَوى
-أهلَ المطاعِمِ والولائمِ ، إرْحَموا
ذَلَّ العزيزُ،فخافُوا يوماً …قدْ كَوى"!
ألحرْبُ لمُ تُبقِ العزيزَ بِعزِّهِ
لكنّ نَصرِ اللهِ آتِينا ………… سَوَى !
بقلم الشاعرة أ-عزيزة بشير
ضجرت ذاكرة التاريخ.ضجر الشهود.ضجرت الأسلحة والقوانين والمذاهب والسماوات،وضجرت أرواح الموتى..لكن-وحدها-شهوة القاتل إلى مزيد من الدم..لم تضجر!
الدّم يشحذ شهية الدّم …
أبناء فلسطين الأشاوس وحدهم في عراء الخليقة الدّامي،تتقاذفهم الرّياح الكونية من زنزانة..إلى معتقل..إلى هواء يتهدّم..إلى أرض تنتفض..إلى عدالة عمياء..إلى قاض أخرس..إلى ضمير أعزل وكفيف..وإلى أمل يضيق ولا يتهدّم..
وعلى شاشة الملأ الكوني،تترقرق الدّمعة الأكثر إيلاما وسطوعا في تاريخ صناعة العذاب،وتعلو صيحة الضمير الأعزل المعطوب،دون أن تُسمَع..!
ودائما : ثمة شهداء يسقطون..ودائما خلف القاتل،ثمة حلفاء وقضاة وجيوش..وخلف الضحية..العماء والصّمت..وخلف العماء والصّمت..شعب يقيم أعراسه على حواف المقابر: أعراس مجلّلة بالسواد ومبلّلة بالنحيب..أعراس دم.
لكن..ثمة أمل..يا عزيزتي..عزيزة..
ثمة أمل ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت..أمل يتمطى عبر نباح الرشاشات وعويل المدافع..
وحده الفلسطيني اليوم..-يا شاعرتنا-بإمكانه أن يحمل بين ضلوعه أملا وضّاء ينير عتمات الدروب أمامه..
ووحده بإمكانه أن يقايض سخط الجلاّد الحاقد بكلمة الأمل الغاضب..فقد علّمنا التاريخ-يا عزيزة-أنّه في أحيان كثيرة يمكن للأمل الأعزل أن ينتصر على جنون القوّة المدرّعة..
كما علّمنا كذلك،أنّ السفّاح-بما يريقه من دم-يحدّد الثمن النهائي لدمه.
لهذا سيذهب-الفلسطيني-نيابة عنا-بأحلامه من حافة الموت إلى حافة الحياة حيث سيرى خلف دخان الجنون وجلبة القوّة : علمَ فلسطين وشمسها ونخيلها وبساتينها وسماءها..
وتحت سمائها تلألأ الرنّة السخيّة لفرح الإنسان..
هناك،وعلى التخوم الفاصلة بين البسمة والدّمعة،سيعثر على-فلسطين الصامدة-وقد هيّأت له مقعدا مريحا ونافذة مفتوحة وسماء صافية وظلا ظليلا..ورغيفا لذيذا..وأنشودة نصر يرقص على ايقاعها أبطال ينشدون الحرية بجسارة من لا يهاب الموت..لينزل ضيفا جليلا على مائدتها..مائدة الشهداء..والشهداء الأحياء: مائدة التاريخ.
ونحن..يا شاعرتنا الفذة ( الأستاذة عزيزة بشير)..!
نحن الذين نخبئ في عيوننا عتمات الأحزان..نحن من المحيط إلى الخليج أمام البحر المتوسط،تنتصب أمامنا حاجبات الوميض،نقرأ أوجاعنا ونردّد كلمات لم نعد نعرف أن نكتبها..!
ولكن..
سينتصب الحقّ شامخا،يخرّ الباطل صريعا..وينبلج الصبح على فلسطين.
لست أحلم..لكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء من حسابات الآفاقين..وعراة الضمير..
صبرا جميلا..يا عزيزة بشير..
متابعة محمد المحسن
*ملحوظة : وسط استمرار الحرب الإسرائيلية وشح إدخال المساعدات الغذائية،لم يعد أمام الأطفال الذين فقدوا كافة حقوقهم إلا مساعدة عائلاتهم في البحث عن الطعام حتى وإن كان في مكبات النفايات.
ويفضل هؤلاء الأطفال تناول ما يجدونه في القمامة من خضراوات على الموت جوعا،في خيار يعكس أقسى أشكال البقاء على قيد البقاء..!!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق