آخر المنشورات

الاثنين، 17 مارس 2025

قراءة في قصيدة عدنا*** ل ذ بياض احمد المغرب بقلم الكاتب موح الدين ابراهيم

 MohieAl-deen Ebraheem شكرا جزيلا للأخ العزيز 

قراءة لقصيدتي:

عدنا***

"أدهشتني تلك القصيدة، وأدهشني بهاء التصور فيها، ففي مهب هذه القصيدة، تتلاقى الكلمة بالقدر، ويقف الشاعر ككاهن على أعتاب الحقيقة، يجمع من عراء اللغة رماد الحكايا، ويرشّه على جرح الزمن لينبض بالحروف. قصيدته "عندنا" ليست محض تدفق شعري، بل طقس احتراقي يتشابك فيه الوجد بالسيمياء، حيث لا يكون الشعر إلا مرآة لخلود غارق في رماد الدلالة. 

هنا، ثمة نزف في الكلمات، لا يراد منه البوح فقط، بل استنطاق الزمن، وقلب الحاضر على محوره، ليصبح المسرح أرضًا لنبوءة تتردد في أروقة الذاكرة.

ومنذ المطلع، يكرّس النص نفسه بوصفه اعترافًا جمعيًا، يفتتحه بضمير "نحن"، لكنه ليس الجمع التقليدي، بل كينونة ممزقة تحمل خلف الستار دمعة الوجع، وكأننا أمام مشهد مسرحي، حيث تُرفع الستائر عن الحقيقة العارية. اللافت هنا هو أن المسرح ليس مجرد استعارة، بل فضاء دلالي يتحرك في النص، يقرع "أنين الرؤى" ليجعل الوجع جزءًا من طقوسية الحياة.

وتتخذ البنية الإيقاعية في النص منحى داخليًا متشابكًا، حيث تتوالى الجمل بنبرة تكثيفية، مستخدمةً الأفعال في سياق تراكمي ("نحمل"، "نلفظ"، "نكتب"، "نحمل")، مما يخلق إيقاعًا سرديًا يقترب من الشعر الملحمي. هذا البناء يحيلنا إلى ملامح قصيدة "The Waste Land" لتوماس ستيرنز إليوت (1888-1965)، حيث يجري النشيد الشعري بين ركام المدن المهدمة، وكأن القصيدة هنا تعيد تدوير أصوات الناجين.

إن التناص في النص لا يتوقف عند مستوى التلاقح مع نصوص الحداثة الغربية، بل يمضي إلى استحضار بنية الأسطورة، حيث يظهر "خريف الماء" بوصفه دالًا مزدوجًا، يجمع بين الخصب والانطفاء، تمامًا كما نجد في "Ode to the West Wind" لبيرسي بيش شيلي (1792-1822)، حيث يصبح الريح أداة موت وبعث في آنٍ واحد. لكن عند بياض أحمد، ينحرف المعنى نحو استبطان الهزيمة الجماعية، إذ لم يعد الخريف وعدًا ببذرة جديدة، بل هو عرشٌ مكتوب "بحبر خريف الماء"، مما يرسّخ دلالة الفناء بدلاً من دورة التجدد.

وسيميائيا، نلاحظ أن الأمهات في النص يحملن "أرق السولجان"، وكأنهن ملكات متعبات يبحثن عن سر الوجود "وراء السراب في خجل الأموات"، وهنا، تتجسد العلاقة بين السلطة والمعرفة في صورة متلاشية، حيث يتحول السولجان – رمز القوة – إلى أرق، بينما تواصل الأمهات البحث عن المعنى بين الغياب والسراب، وهذه الصورة تكاد تستدعي مشهد الأمهات في "Les Mères" لشارل بودلير (1821-1867)، حيث تجتمع الأمومة والفقدان في مشهد غرائبي مشبع بالكآبة الميتافيزيقية.

إن الجانب الفلسفي للنص يتجلى في انشغاله بمفارقة الكينونة والعدم، فحين يعود الجمع "ثائرين"، فإنهم لا يأتون بالغلبة بل بخجل الكلمات وسوق الدعاية، هذه السيميائية تعيدنا إلى مفهوم "التمثيل الزائف"، حيث تصبح اللغة وسيلة للتزييف، بدلًا من أن تكون أداة للحقيقة، وهنا، يمكننا أن نستدعي مقولة نيتشه عن أن "الحقيقة ليست سوى وهم متفق عليه"، حيث يتحول النص إلى مسرح للزيف الجمعي، ليؤكد أن العودة ليست خلاصًا بل استمرارًا لدورة الانكسار.

ويتخذ النص بعدًا أسطوريًا حين يعلن: "أيها الشعر، لأموت منتشرا كالحروف في أول آية"، وهنا، تتجلى رؤيا الصوفي، حيث يصبح الموت ولادةً جديدة داخل الحروف الأولى، في استدعاء مباشر لنصوص البعث.

إن هذا المشهد يذكّرنا بنهاية "The Second Coming" لوليام بتلر ييتس (1865-1939)، حيث يولد مسيح مشوه في عالم مقلوب رأسًا على عقب، وهو ما يتطابق مع نزعة النص لاستحضار الميثولوجيا المقلوبة، حيث لا تعود الآية الأولى بشارة، بل إعلانًا للذوبان في المطلق.

ويتمدد البعد النفسي في النص ليشمل مستويات متعددة من القلق الوجودي، بدءًا من "مرآة الطوفان"، حيث تتجسد صورة الدمار في هيئة انعكاس، وصولًا إلى "لغة الأرق"، التي تصبح جامحة، تصب اللجام على الرحى، وهذا التوتر بين الفوضى والنظام يستدعي مفهوم "القلب الدائري" عند غاستون باشلار، حيث يصبح كل نظام قائم محكومًا بالفوضى الداخلية التي تهدد بإعادة تشكيله.

أما في البعد الاجتماعي، فإن النص يقدّم نقدًا ضمنيًا للعالم الاستهلاكي، حين يدمج بين "زيف الأشياء" و"قرابين القرى"، وكأن التضحية لم تعد طقسًا دينيًا بل ممارسة يومية في سوق القيم المستهلكة، وهذا يذكّرنا بمفهوم "مجتمع الفرجة" عند غي ديبور، حيث تتحول الحياة إلى استعراض، يفقد فيه كل شيء جوهره لصالح الصورة المزيفة.

ومن زاوية التحليل التشكيلي، نلحظ أن النص يقوم على ثنائية الضوء والظل، حيث يتكرر استخدام مفردات مثل "السراب"، "الطوفان"، "المرآة"، في مقابل "اللغة"، "النشيد"، "الحروف"، مما يخلق فضاءً بصريًا متضادًا، يتيح للمتلقي التنقل بين العتمة والنور، وهذه التقنية نجدها جلية في أعمال رينيه شار (1907-1988)، الذي جعل من التباين البصري في النصوص الشعرية أداة لإبراز التوترات الفكرية.

وحين نبلغ الخاتمة، نجد أن الشاعر يرسم لنفسه مصيرًا يشبه مصير الحروف، يختار الموت منتشرًا، لا كمحارب أو نبي، بل ككلمة في أول آية، في ولادة دائمة بين الصدى والمعنى، إنه الانصهار بين الشاعر وكلماته، بين الحياة والمحو، هو جوهر التجربة الصوفية، حيث لا يكون الوجود إلا تمرينًا على الفناء، كما عند ابن عربي، حين يقول: "أنت لا تكون حتى تفنى، وإذا فنيت كنت". بهذا، يكون الشاعر قد اختتم قصيدته بانفتاح لا نهائي، تاركًا للقارئ أن يتمدد داخل بياض الحروف، كما يتمدد الوجود داخل غيابه."


عندنا ***


عندنا 

نحمل وراء الستار 

دمعة الوجع 

ونلفظ أنين الرؤى 

ليدوي مسرح الحياة

على آخر قافلة.......

عدنا 

ثائرين 

نكتب عرش الأقواس 

بحبر خريف الماء 

وأمهاتنا 

يحملن أرق السولجان 

ويبحثن عن لغزنا 

وراء السراب 

في خجل الأموات......

عدنا 

نحمل خجل الكلمات وسوق الدعاية 


نحمل زيف الأشياء 

والتالف المتصدع 

على قرابين القرى 

ونعوش الولادة....

نحمل مرآة الطوفان وغرقانا 

ولغة الأرق 

تصب اللجام على رحانا 

ونشيد نا 

أسطورة قديمة 

تحمل في محاجرنا 

لغة موتانا 

أيها الشعر 

لأموت منتشرا 

كالحروف 

في أول آية......   


ذ بياض احمد المغرب



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق