آخر المنشورات

الخميس، 6 مارس 2025

*شهر رمضان : رحلة الروح إلى نور الحقيقة* بقلم الكاتبة دنيا صاحب - العراق

 *شهر رمضان : رحلة الروح إلى نور الحقيقة* 


 دنيا صاحب - العراق 


في فضاء الزمن المقدس، حيث تتداخل أبعاد الروح مع سر الوجود، ينبثق شهر رمضان كنافذة إلهية تفتح على ملكوت النور العظيم ، وتتيح للإنسان فرصة التحرر من ظلمات الغفلة إلى إشراقات القرب من الله سبحانه وتعالى. 


"هو شهر مبارك لا يشبه غيره من الشهور ، العبرة من الصيام في هذا الشهر، ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو رحلة روحية عميقة يستكشف فيها الإنسان أعماق نفسه، ويجري التحقيق في ثلاثين يوماً نحو تهذيب النفس ومعرفة ذاته الحقيقية، حيث ينقّي الصائم قلبه من عوالق الدنيا والادران والشوائب ، ليغدو مرآة صافية تعكس نور الله وجماله، ويكون لذلك رحلة عروج روحية نحو الكمال والتقرب إلى الله الحق تعالى."


*تجليات الرحمة الإلهية في فريضة الصيام* 


في القرآن الكريم، تتجلى عظمة هذا الشهر في قوله تعالى:


 *> "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة: 183).* 


هذه الآية المباركة ليست مجرد تشريع للصيام، بل نداءٌ الله الذي يخاطب قلوب المؤمنين، يستنهض فيها استعدادهم للسير في طريق النور الالهي، والتطهر من كثافة الجسد المادي، والارتحال في مدارج الروح إلى مقام الوحدانية. 


 تُظهر الآية المباركة  أن الصيام ليس مجرد فرض على الجسد، بل هو عبادة روحية تنقي القلوب، وتزكي النفوس وتؤهل العبد للتقوى. 


والتقوى من القيم الأساسية في دين الإسلام، وهي حالة من الوعي المستمر بأن الله قريبٌ دائمًا، رقيبٌ لا يغفل، فكل لحظة من لحظات الحياة هي فرصة للاتصال به. 

وفي التأويل العرفاني، التقوى هي الانتباه المستمر إلى حضرة الله تعالى، واليقظة القلبية التي تدفع العبد للانصهار في نوره، بحيث لا يرى إلا الله في كل حركة وسكون. هي الحضور الذاتي في مقام الخشية والتعظيم لله، وتحقيق الطاعة في كل ما يرضيه، والتسليم الكامل لحكمته. تعتبر التقوى طريقًا إلى التطهُّر الداخلي، وتحقيق السكينة والاتصال الروحي العميق بالله، فهي ليست فقط الامتناع عن المعاصي، بل تجسيد للحضور في قلب العبد وتفكيره وسلوكه بكل أبعاده . تدفع المؤمن إلى الامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، بهدف حماية النفس من غضب الله وعقابه. تتفاوت مراتب التقوى بين الناس، إلى ثلاثة أقسام بدرجات الوعي ، مستنداً إلى قوله تعالى: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ" .

التقوى وهي حالة من الوعي الداخلي التي تمكنه من التفاعل مع احكام شريعة دين الاسلام .

 تصل بالعبد المؤمن إلى حالة الورع هو خُلُقٌ رفيع يُعبِّر عن كفِّ النفس عن المحارم واجتناب من الوقوع في الشبهات، تحقيقاً للتقوى والابتعاد عن كل ما يُغضِب الله تعالى. 


 *معنى الورع لغةً واصطلاحًا:* 


لغةً: الورع يأتي بمعنى الكفِّ والانقباض، ويُشير إلى العفَّة والتقوى، والامتناع عن المحارم. 


اصطلاحًا: هو اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرَّمات، وحمل النفس على الأحوط والأوثق في الأمور الدينية. 


أهمية الورع في الإسلام:

الورع يُعَدُّ من أعلى مراتب الإيمان والتقوى، حيث يُعين المسلم على ترك ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، والابتعاد عن كل ما قد يضرُّه في آخرته. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم معاني الورع في قوله: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ". 


*الصيام: معراج الروح وسموها في مدارج الكمال* 


الصوم في حقيقته رياضة روحية، تُمحو ظلمة النفس وتحيي بصيرة القلب. فمن امتنع عن الطعام والشراب، ولم يمتنع عن الغيبة والحقد والكبر، لم يرتقِ بحقيقة الصيام، لأن الصيام هو كفُّ الجوارح عن كل ما يحجب القلب عن نور الله. وقد ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى:


 *> "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ" (الحجرات: 12).* *

 

هذه الآية تحث على تجنب الغيبة والنميمة، وتصورها بصورة مقززة تشبه أكل لحم الأخ، مما يعزز فهم قبح هذا الفعل. كما أن التحلي بالتواضع والابتعاد عن الكبر من صفات المؤمنين، وقد ورد في القرآن الكريم الآية المباركة: 


"وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا" (الفرقان: 63)


هذه الآية المباركة تصف عباد الرحمن بالخصال التالية:


يمشون على الأرض هوناً: أي يسيرون بتواضع وخشوع، دون تكبر أو غرور. إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً: أي يردون السلام على من خاطبهم، حتى لو كانوا جاهلين أو مخطئين تصدر منهم طاقة التسامح والصفح أي المغفرة.


 *ليلة القدر: اللحظة الفاصلة بين الظلمة والنور** 


ومن رحم الصيام، تولد ليلة القدر، تلك الليلة التي تُمثّل الذروة الروحية للشهر الكريم، حيث يُعاد تشكيل مصائر العباد، وتتنزل الملائكة بأمر الله، لتتجلى على قلوب السائرين في طريق العرفان أنوار السكينة والطمأنينة والسلام . في هذه الليلة، يدخل العبد في عالم ملكوت السماء ، ويدرك أن كل شيء كان امتحانًا لبلوغه هذا المقام، وتستقر النفس في مقام النفس المطمئنه لا يحصل عليها العبد المسلم إلا بتزكية النفس ليحصل على السلام في حياة الدنيا ويصل إلى دار السلام في الآخرة. وتظهر هذه المعاني في قوله تعالى: الآية المباركة :


"يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" (الفجر: 27-30)

*سورة القدر: تأملات عرفانية في ليلة التنزيل المباركة* 

دنيا صاحب - العراق 


 *"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" (القدر: 1-5)* 


سورةُ القدرِ من السورِ المكية، وقد تناولتْ حدثًا عظيمًا وقعَ في ليلةِ القدرِ المباركة، حيثُ شهدت نزولَ القرآنِ الكريم. تُبيّنُ السورةُ مكانةَ هذه الليلةِ وفضلَها العظيم، إذ هي خيرٌ من ألفِ شهر، تتنزّلُ فيها الملائكةُ بالرحمةِ والبركةِ، وتُفيضُ الأنوارُ الإلهيةُ على قلوبِ المؤمنين، فتكونُ سلامًا حتى مطلعِ الفجر.



التأويل الباطني للسورة:


 "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ":


يُشير الضمير "أَنْزَلْنَاهُ" إلى القرآن الكريم، الذي أنزله الله في ليلة القدر. في التأويل الباطني، يُعتبر هذا التنزيل رمزًا لتنزُّل الحقائق الإلهية والنور الرباني على قلوب العارفين في أوقات الصفاء الروحي.


"وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ":


هذا التساؤل يُبرز عظمة ليلة القدر وصعوبة إدراك حقيقتها.  تُعتبر هذه الليلة فرصة لتجاوز حدود العقل والوصول إلى مقامات الشهود والوصال مع الحق.


 "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ":


تُبيّن هذه الآية فضل ليلة القدر، حيث تعادل في قيمتها الروحية عبادة ألف شهر. في التأويل الباطني،  بأن لحظات الاتصال بالله في هذه الليلة تفوق بأثرها وعمقها سنوات من العبادة الشكلية .


"تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ":


يُشير إلى تنزُّل الملائكة والروح (جبريل) في هذه الليلة بإذن الله. في العرفان، يُرمز ذلك إلى تنزُّل الإلهامات والأنوار الربانية على قلوب السالكين، مما يُضيء دروبهم بالمعرفة والحكمة والعلم .


"سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ":


تُختتم السورة ببيان أن هذه الليلة مليئة بالسلام حتى طلوع الفجر.، يُعبِّر ذلك عن حالة السكينة والطمأنينة التي تغمر قلوب العارفين خلال تجليات الأنوار والالطاف الإلهية في هذه الليلة المباركة، والوصول إلى مرحلة السلام الدائم الذي يحيا فيها العبد المؤمن.


ليلة القدر، في المنظور العرفاني 

 هي نقطة التحول الروحي الكبرى، حيث يتنزل النور الإلهي على الأرواح المتهيئةوالمستعدة لبلوغ هذا المرتبة الروحية، وتكون هذه اللحظات مليئة بالرحمة والعطاء الالهي، ليصير العبد في حالة استنارة تامة. وهي لحظة الشعور  بحياة الخلود، حيث تتفتح أبواب السماء لتنزل الأنوار القدسية  والالطاف الإلهية على ارواح المؤمنين فتتحقق فيها معاني القرب والوصال الدائم مع الله سبحانه وتعالى. 



*رمضان: سرُّ العودة إلى الفطرة الأولى* 


الصيام هو عودة الإنسان إلى فطرته النقية ، حيث يتحرر من شوائب المادة، ويعود طفلاً في حضن الفطرة السليمة التي خلق منها في رحمة الله . وفي هذه المرحلة، يكتشف المسلم خلال شهر رمضان، أن وجوده لا يقتصر على الجسد المادي فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى ارتقاء الروح التي تتوق إلى القرب من الله تعالى والعودة إلى النشأة الانسان الأولى في العالم العلوي . فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو وسيلة لتطهير النفس والارتقاء بها إلى مراتب الكمال الروحي. يُعد رمضان فرصة لإعادة النظر في علاقة المسلم بربه، وبنفسه، وبالآخرين، مما يعزز القيم الإنسانية والمبادئ السامية في سلوكه.


 *> "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" (الروم: 30).* 


هنا يشير القرآن الكريم إلى الفطرة الأصلية التي خلق الله الناس عليها، وهي فطرة الطهارة الروحية، التي تعود للإنسان في شهر رمضان من خلال تطهير الجسد من الشهوات المادية واجتناب المحرمات ليقوى على التواصل مع الله بقوة الايمان والصبر على مجاهدة النفس الشهوانية.


وفي نهاية الشهر، حين يهلُّ هلال العيد، يكون الصائم قد وُلِدَ من جديد، ليس بجسدٍ جائعٍ، بل بروحٍ متخمةٍ بنور القرب الإلهي، وعقلٍ متحررٍ من قيود الدنيا، وقلبٍ يفيض رحمةً وصفاءً.


شهر رمضان المبارك هو موسمٌ عظيم للمغفرة والرحمة الإلهية، حيث يُفتح فيه باب التوبة والتقرب إلى الله تعالى. يُشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:


 *> "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه."* 


 هذا الحديث يبيِّن أن شهر رمضان فرصةٌ سانحةٌ للمسلمين لطلب المغفرة والتوبة، من خلال أداء العبادات والطاعات، والابتعاد عن المعاصي والذنوب.


من الأعمال التي تُساهم في مغفرة الذنوب خلال هذا الشهر الفضيل:


الصيام: الامتناع عن الطعام والشراب من الفجر حتى المغرب، مع الإخلاص والنية الصافية.


القيام: إقامة صلاة التراويح والتهجد، والتفرغ للعبادة في ليالي رمضان.


تلاوة القرآن: قراءته بتدبر وتأمل، والالتزام بتلاوته يوميًا.


الصدقة: التصدق على المحتاجين، وإفطار الصائمين، والإحسان إلى الفقراء.


الدعاء والاستغفار: الإكثار من الدعاء والتضرع إلى الله، والاعتراف بالذنوب والتوبة النصوح.


بالإضافة إلى ذلك، تُفتح في رمضان أبواب الجنة وتُغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، مما يُهيئ للمسلمين بيئةً روحانيةً مثاليةً للتقرب إلى الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم:


 **> "إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وسُلسلت الشياطين."


في ختام الشهر، يُختتم موسم المغفرة والرحمة بعيد الفطر، حيث يُكافئ الله الصائمين على صبرهم وعبادتهم، ويُغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم، بشرط الإيمان  وصدق النوايا. لذا، يجب على المسلم أن يغتنم هذه الفرصة العظيمة، ويُضاعف من أعماله الصالحة، سعياً لمغفرة الله ورضاه، والفوز برحمته الواسعةٍ في الدنيا والآخرة .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق