دراسة أكاديمية: "سأبوح بسرّ المجرات" لعبدالله القاسمي
المقدمة
يمثل الشعر عند عبدالله القاسمي أداة كشف ذاتي، ووسيلة صراع داخلي يعبر بها عن اغتراب الإنسان، وحيرته، وحنينه إلى الأصل، وإلى الطفولة، وإلى الحب بوصفه خلاصًا ممكنًا. في قصيدة "سأبوح بسرّ المجرات"، نواجه شاعراً يعيد رسم خارطة وجوده الداخلي، معلناً ولادة جديدة من رماد العزلة، في عالم مأهول بالأقنعة والخداع.
1. العنوان: من البوح إلى الكونية
العنوان "سأبوح بسرّ المجرات" يستبطن مفارقة كبرى: السرّ لا يُبوح به، والمجرات لا تنتمي لعالم المحسوسات اليومية. البوح هنا لا يتجه إلى الآخر بقدر ما ينقّب في الداخل، في اللاواعي الشخصي والكوني معاً، ما يجعل من "السرّ" استعارة عن جوهر الكائن، عن ذلك المخفي الذي لا يُقال إلا شعراً.
2. بنية النص: تشظي داخلي وبحث عن الخلاص
النص لا يتبع تسلسلاً سردياً تقليدياً، بل يتشكّل من مقاطع شعرية متراصة تُشبه الذبذبات أو النبضات النفسية. الشاعر يتنقّل بين مشاهد داخلية (الروح، الحلم، الصوت، الطفولة) ومظاهر خارجية (الليل، الرسائل، الفهد، الفراشات...) ليخلق نصاً حركيّاً تنكسر فيه وحدة الزمان والمكان.
3. صورة الذات: غربة، تمزق، ومحاولة تشكّل جديد
الذات في القصيدة متشظية، فقدت وجهها، وانسلخت عن طفولتها، وتحاول استعادتها. يؤسس هذا المقطع لبُعد فرويدي في النص، حيث يتم استحضار الطفل الداخلي بوصفه جوهر الذات الأصيلة التي غمرها العالم القاسي، والتي لا بد من بعثها من جديد لتتحقق الهوية الحقيقية.
4. الحب: خلاص وجودي وكوني
الحب هنا ليس مجرد علاقة رومانسية، بل هو وظيفة كونية ومبدأ للخلاص والامتلاء. يُطلب الحب كما يُطلب المطر في صحراء وجودية، هو رداء، وهواء، وماء، وهو شرط لإعادة ترميم الصوت واللغة والجسد، كما لو أن القصيدة تصرخ في وجه الوجود: "لن أستعيد إنسانيتي إلا بالحب".
5. الرمز والانزياح الأسلوبي
النص ممتلئ بالرموز ذات الأبعاد الأسطورية والطبيعية: المجرات، الفهد، الفراشات، الرعد، الطفل، النسر، النجوم، الأقحوان. كلها ليست مجرد صور بل شفرات نفسية ترسم عالماً ذا أبعاد سوريالية، حيث تتحول اللغة إلى حلم مرئي، وتتقاطع فيه الذات الفردية مع الكون اللامتناهي.
6. المقاطع الختامية: من الرعشة إلى السكون
هنا يبلغ النص ذروته الشعورية: الحب ككيان متناقض، مشتهى ومؤلم، ملموس ومراوغ، تمامًا مثل الشاعر نفسه. وفي نهاية النص، نعود إلى البداية: إلى اللغة، إلى الحرف، إلى الشعر كمرآة كينونة.
الخاتمة
"سأبوح بسرّ المجرات" ليست مجرد قصيدة حب، بل هي مرآة كونية لنفس تمشي على الحافة. الشاعر هنا يرمم صوته، وجهه، ذاكرته، طفولته، لغته، بحثًا عن حياة ممكنة في عالم كالح. إن الشعر عند عبدالله القاسمي ليس تعبيرًا فقط، بل فعل وجود، مقاومة للحذف، وصرخة في وجه البرودة الوجودية.
مراجع نقدية
- غاستون باشلار، جماليات المكان
- كارل يونغ، التحليل النفسي والرمز
- بول ريكور، الزمن والسرد
- أدونيس، زمن الشعر
****************************************
سأبوح بسرّ المجرات
@ ABDALLAH GASMI
سأفتح قلبي على مصراعيه
سأفتح نوافذ الصدر والأبواب المقفلة
في الروح ورود لم تصل يوما إلى صاحباتها
في الرّوح رغبات أخفيتها بعيدا عن العابرات
في الروح أحلام باردة نسيتها في كهف الأيام
سأفتح الليل وأقفاص الطيور السجينة
سأفتح الليل وحقائب الحلم والخداع
سأفتح كل شيء ... سأفتح رسائل الحب الكاذبة
سأبوح بسرّ المجرات التي تشكلت منذ ملايين السنين
في حقائبي ينام فهد جائع
في صدري ترفرف فراشات حزينة
تحت أظفاري تنمو أعشاب بريّة شائكة
سأوقظ ذاك الطفل النائم بداخلي وأعيد تشكيل وجهي القديم
لقد كان وجهي مشرقا ثم غزته العتمة ،
كنت غريبا عن وجهي
غريبا عن الدروب التي تحت قدمي
سأرمم صوتي المتناثر كالرّعد على سفوح الجبال
صوتي المتناثر في مسامع الموتى
صوتي الذي يمشي حافي القدمين في الميادين
صوتي لا رائحة له ولا وطن
كنت كما البرق الأخضرِ في التلال
ظلي يمشي منكس الرأس خلفي
ظلي يخبرني بأنني رجل حزين
ظلّي الحزين يخبرني بأن الأشياء تخذلني : الأغنية التي كتبتها ثم هجرتها
الحبيبة التي تخون قصائدي و تهجرني
الأحلام التي تنام بجواري و تهجرني
الورود التي تصلني و تتحول طلقات نارية بيضاء
ماذا لو أحببتني حقا
أنا في حاجة لحبيبة تلمع كنجمة في أقاصي الكون
أنا في حاجة لحبيبة تلبس الحب و الشعر .
حبيبة توغل في الجانب الآخر من القمر
حبيبة تتوسد حلمي كلّ ليلة و تأخذه بعيدا في أعماقها
إذا كنت ترغبين أن أحبك
ضمّني كنحلة تغوص في أعماق الأقحوان
ضمني لتتحوّل الأحزان طيورا تحلّق فوق المحيط
إذا كنت ترغبين أن أحبك
أيقظي الطفل الذي يبتكر الصور الجميلة بداخلي
أنا عالق في شبكة النجوم الرماية كبحّار تاه في المحيط ذات مساء
إذا كنت تريدين مني أن أحبك فقدمي لي ماءً نقيًا
قدمي لي الفستق والكرز لأخمد رغبتي
ضمني فانا كالطيور التي ليس لها مكان لأعشاشها
ضمني برداء كلماتك من الأعلى إلى الأسفل ،كل الأماكن في مجرتي بلا حب ولا ماء
كل عضو في جسدي يكدح و ينزف ويموت من البرد
ضمني مثل الهواء الرطب الذي يجعل القدمين سوداء عند الفجر
كنت أحدث يدي وأقول لنفسي : كيف ابتعدت عن طفولتي
قبل حبك كنت ارتجف كصفصافة في العراء
لا تذهبي بعيدًا عن المنحدر الذي اخترته
توقفي الآن في حلمي وافتحي نوافذه
اسكني الأبيات التي أخطها واقرئي الحب في عيني
الحب يجعلني عديم الوزن، كحلم من قماش
الحب ينمو تحت الجلد حيث يعيش نسر صغير
قبل الحب كنت أتحدث بلغة الشعر
قبل الحب كنت دائم الرقص على الجليد في أوردتي
كنت أحدث قدمي و أقول لنفسي :هل سأظل على سلم الصمت وحدي
حبك يشبهك
هو مزيج من الوجع المحنط والمتعمة الزرقاء
هو نار خجولة ملتهبة كالرمال
هو كالأحلام تنزلق بين أصابعي كالماء
قبل حبك كنت أتحدث بلغة الشعر

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق