دراسة نقدية لنص "أهذا يكفي؟" للشاعر حمدي عبد العليم
بقلم هدى عزالدين
يتساءل الشاعر بعنوانه الاستفهامي: "أهذا يكفي؟"
فبهمزة الاستفهام المرتبطة بالفعل "يكفي"، يفتح محيط تساؤلي واسع، يُلمّح إلى أن الألم لم ينتهِ بعد، وأن هناك دائمًا المزيد من الخذلان.
نحن أمام تعبير يوحي بالاستمرارية في "عدم الاكتفاء" من الألم أو الخيانة، كأن القارئ مدعو إلى الترقّب، والتأهب لحدث آخر قادم. فالبطل الشعري يمتلك الكثير من التوقعات، التي تهيّئ القارئ لحالة من الوعي واليقظة، مما يمنح النص وظيفة نفسية داخلية تُلامس وجدان كلّ من مرّ بتجربة فقد أو خيبة.
ورغم أن العنوان يبدو بسيطًا في ظاهره، فإنه يحمل في طيّاته بُعدًا تنكيريًّا (أداة النكرة في "هذا")، ما يفتح باب التأويل، ويخلق حالة من عدم الاستقرار المعنوي، لا يكتشفها القارئ إلا بعد قراءة النص كاملاً، وهذه حرفيةٌ واعية من الشاعر حمدي عبد العليم.
---
مدخل النص: تساؤلات وجودية وتراكم جراح
يفتتح الشاعر نصّه بمزيد من الأسئلة:
"ماذا لديكم غير ذلك؟"
كأنما يتحدث من قلبٍ اعتاد الصفعات المتكررة من أولئك الذين منحهم المودة والثقة. هو وصف لحالة نفسية متأزمة تعيش في ظلال الخذلان الجماعي.
---
الرمزية: الحداية والغراب
حين يقول:
"وماذا تمنح كل حداية؟
وماذا يمنح كل غراب؟"
فهو يوظف رمزين عربيين قويين:
الحداية: طائر جارح، يوحي بالمكر والانقضاض والانتهاز.
الغراب: رمز تقليدي للتشاؤم، والشؤم، والموت في الثقافة العربية.
هنا تحالف رمزي بين الشر والمكر والتربص، حيث تتحول الحيوانات إلى استعارات لمن ينهشون جسد الذات، لا على مستوى الفعل، بل حتى النخاع!
---
صراع نفسي روحي: الله، الرؤية، والانكشاف
ثم يتحول النص إلى منطقة صوفية حين يقول:
"الله يا الله تجلّ لي
تجلّى، أشكرك يا الله
بعدما أبصرتني..."
كأن الشاعر نال كشفًا إلهيًّا، يرى بعده الناس على حقيقتهم. يكشف الله له دروبهم الكاذبة، ومساكنهم الكئيبة، ونفاقهم المقنّع. هنا التجلي الإلهي يصبح عونًا نفسيًّا، وتصبح القصيدة نوعًا من الإنصاف من السماء بعد الظلم الأرضي.
---
بلاغة الألم: أكلوا لحمه حتى النخاع!
في قوله:
"لحمي نزر نحيف نزف
وما أشبع جوعتهم
أكلوه وقرمشوا تحته العظام
ومصّوا وشربوا النخاع..."
صورة مرعبة ومرهفة في آن. تمثيل بلاغي للاستغلال التام والكامل، حيث لم يكتفوا بالسطح، بل ذهبوا إلى أعماق العظم. هنا بلاغة القسوة تبلغ ذروتها.
---
الخيال المرعب: المقبرة الحديدية
في القسم الأخير، يصور الشاعر كيف سيواجهونه حتى لو عاد شبحًا، ويشيدون له مقبرة حديدية، بحراس وبوابات لا تحصى. هذا امتداد للرمزية النفسية: هؤلاء الذين ظلموه لن يكتفوا بموته، بل سيطاردونه حتى في خيالهم، في محاولة لدفن ذكراه وتبرئة أنفسهم من فعلهم الشنيع.
---
الخاتمة الساخرة: عجز أخلاقي لا ينتصب
"وأظنّ رغم كلّ هذا
أنّ مفاعل مخازيهم الرخو
لن يحظى كالسعداء بانتصاب"
هنا سخرية لاذعة، تهكم وجودي، حيث تُقابل القسوة والانحطاط الأخلاقي بالعجز الجنسي الرمزي. التعبير صادم لكنه ينتمي إلى تراث شعري هجائي عربي أصيل، مثل هجاء جرير والفرزدق، مع لمسة حداثية مؤلمة.
---
التحليل النفسي والاجتماعي
هذا النص لا يحكي تجربة ذاتية فقط، بل يُجسّد صورة إنسانية شاملة:
من نبيّ يُخذل، إلى شاعر يُطعن، إلى إنسان يُستنزف عاطفيًا وروحيًا، ويُساء إليه من أقرب الناس.
---
الخاتمة النقدية
نصّ "أهذا يكفي؟" يمزج بين:
صدق الاعتراف
ثورة الوجدان
رؤية روحية للعدالة
بلاغة موجعة وصور جريئة
لغة تميل إلى الخطاب المفتوح والتصعيد النفسي
إنه نصّ جدير بالدراسة، ويُحاكي جراحًا يعيشها الإنسان المعاصر يوميًا، ويحتاج إلى قرّاء لا يبحثون عن الجمال فقط، بل عن الحق داخل الجُرح.
........
النص
أهذا يكفي؟...
ماذا لديكم
غير ذلك؟!
أنتظر الثانية،
والكل يعلم
ماذا تمنح كلُّ حِدايَة،
وماذا يمنح كلُّ غُراب.
فأرسلوا إليّ كلَّ
ما يُرعد قلوبكم،
ظنونَكم، أحقادَكم،
أحسادَكم، وفكّوا
أغلالَ الغِلِّ بنفوسكم.
ما الذي يمنعكم؟ مرحى
بكم وقد حَباكم الله
بسوادِ القلوبِ الغُلفِ،
حينما لدعائكم استجاب!
اللهَ يا اللهُ تجلَّ لي،
تجلَّى، أشكرك يا الله،
بعدما أبصرتَني،
أرى رُهابَ دروبهم،
وكآبةَ دورِهم وزورَهم،
وبعدما كشفتَ لي عن
أستارِ غيوبِهم الحجاب،
هاكم...
ما كانوا يومًا أحبابًا!
لحمي نَزْرٌ نحيفٌ نَزَف،
وما أشبع جوعتَهم!
أظنُّ ذلك؟!
ورغم ضآلته، أكلوه،
وقرمشوا تحته العِظام،
ومصّوا، وشربوا النخاع،
وألقَوا اندثاري في اليباب...
هاكم...
ما كانوا يومًا أحبابًا!
والآن،
هل أسعدَهم فراغُ
حضوري في ما بينهم؟
أم ينتظرون شبحي؟
إذا ظهر في خيالاتهم،
سيقتلونه تحت جفنِ
قبوّاتِهم، وسيضربونه
بحصواتٍ من فوق أكباد
كبواتِهم، بكلِّ صلبِ معاب،
حتى يموتَ، ويلحقَني،
ثم يشيدون له مقبرةً
حديديةَ الجدرانِ، لها
ألفُ ألفِ زمنٍ أغبر،
وألفُ ألفِ حارسٍ
على ألفِ ألفِ باب!
هاكم...
ما كانوا يومًا أحبابًا!
وأظنّ رغم كلِّ هذا...؟
أظنُّ مفاعِلَ مخازيهم الرخوَ
لن يحظى، كالسعداء، بانتصاب!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق