قراءة نقدية لقصيدة "ولدتُ وفي قلبي مئذنة" للشاعرة منية جلال ...بقلم د. موسى الشيخاني
قراءة نقدية فلسفية استقرائية في قصيدة "ولدتُ وفي قلبي مئذنة" للشاعرة منية جلال ...بقلم د. موسى الشيخاني
أولاً: مدخل إلى تجربة الشاعرة وسيرتها الأدبية
تأتي قصيدة "ولدتُ وفي قلبي مئذنة" للشاعرة منية نعيمة جلال، وهي إحدى الأصوات النسائية البارزة في المشهد الثقافي التونسي والعربي، حيث تشغل مواقع محورية داخل مؤسسة عرار العربية للإعلام:
- عضو مجلس أمناء المؤسسة
- مساعدة للرئيس التنفيذي لشؤون التنظيمية والرقابة الإدارية والمتابعة
- عضو إدارة جائزة عرار التقديرية
- عضو لجنة الرقابة الإدارية والتنظيمية
تمتلك الشاعرة باعًا طويلًا في الحقل الشعري والإبداعي، وقد أسهمت في تمثيل الكلمة الأنثوية بوعي نقدي وثقافي عميق، مما جعل منها صوتًا شعريًا ورساليًا في آنٍ واحد، يجمع بين جماليات النص وحكمة التجربة.
ثانيًا: القصيدة بوصفها بيانًا فلسفيًا عن الذات والوجود
في هذه القصيدة، لا تحتفل الشاعرة بعيد ميلادها كذكرى شخصية فحسب، بل تعيد تعريف ذاتها شعريًا من منظور فلسفي وجودي:
"ولدتُ وفي قلبي مئذنة
وفي يدي شقُّ نخلةٍ
تدعو الماءَ أن يصعد إليّ."
هذه الصورة الافتتاحية تستدعي رموزًا دينية وصوفية: المئذنة تمثل البُعد الروحي، النخلة رمز العطاء والصبر، والماء هو التجلي الحياتي الصاعد لا النازل. هذا الميلاد ليس جسديًا بل ميتافيزيقيًا، مولد وعيٍ ووجدانٍ يقف على أنقاض الألم.
ثالثًا: تموزية الرؤية وتمردها على الهزيمة
تبرز القصيدة انتماء الشاعرة إلى جيل شعري يسكنه التمرد النبيل، حيث تُهدي نصها إلى "التموزيين" و"الجويليين"، في محاولة لتكريس هوية إنسانية جديدة:
"أبناء الحرائق النبيلة،
الذين حين يُخذَلون لا ينكسرون،
بل ينهضون من رمادهم
كأن الوجع ماءٌ خفيّ يسقيهم."
هذا التوصيف يحيل إلى الرؤية الفينيقية-الأسطورية في انبعاث الذات من رمادها، وهي شاعرية تليق بتونس الحضارية، حيث تتلاقى بقايا قرطاج وعبق الشعر الحديث.
رابعًا: الذات كنايٍ يعزف من نشاز الحياة
"أنا ابنة الحبر الذي لم يُقرأ،
وحبيبة المواعيد التي لم تُفتح...
بل نايٌ يعزف وحده
لأنه تعلّم السُّلمَ
من نُشازِ الحياة."
هنا يظهر جوهر الفلسفة الشعرية عند منية جلال: تحويل الخيبة إلى إيقاع، والنشاز إلى موسيقى. لم تعد الشاعرة تبحث عن التناغم، بل تخلق تناغمها الخاص في وجه الفوضى. إنها تجربة ما بعد الحداثة حيث الذات لا تنكسر بل تعيد تعريف اللغة والحياة.
خامسًا: الشعر كخلاص داخلي وتأمل أنثوي عميق
"اليوم…
أُطفئ شمعةً في قلبي،
وأشعل أخرى في رأسي."
يُختتم النص بمفارقة بين القلب والرأس، بين العاطفة والتفكير، وهي إشارة إلى التحول من الحزن إلى الوعي، من الألم إلى النضج. هذا التحول ليس احتفالًا عابرًا، بل ميلادًا فلسفيًا مكتملًا، تنبع فيه القصيدة من داخل الذات لا من خارجها.
سادسًا: في رمزية "المئذنة"
المئذنة في قلب الشاعرة لا تؤذن للناس، بل ترفع الأذان إلى الداخل، فهي استعارة صوفية فريدة تعني أن الشاعرة أصبحت في تماس مع صوتها الداخلي، مع الله، مع الحياة. لم تعد تنتظر خلاصًا من الخارج، بل تستدعي خلاصها من عمق جرحها الشخصي.
سابعًا: لغة القصيدة وموسيقاها
القصيدة مكتوبة بلغة ناعمة لكنها تقطع الأعماق. تتكئ على:
- الرمز الصوفي والديني
- تكرار إيقاعي داخلي متوازن
- مجازات جديدة، غير مستهلكة
- اقتصاد لغوي لا يفقر المعنى بل يُركّزه
ثامنًا: إيجابيات ومعالم نقدية
الإيجابيات:
- نضج لغوي وفلسفي يظهر في المفارقات والمجازات.
- انسجام عضوي بين النص والسيرة الذاتية.
- احتفاء واعٍ بالأنثى دون الوقوع في النرجسية أو التقريرية.
- القدرة على تحويل الذكرى إلى حدث شعري فلسفي.
ملاحظات نقدية:
- بعض المقاطع كانت تحتمل قدرًا أعلى من التكثيف الرمزي، إذ شغلتها المباشرة العاطفية قليلاً.
- غياب العنوان الفرعي داخل القصيدة (مثل مقاطع معنونة) ربما جعل القارئ يُعيد قراءتها ليحسم مستويات التأويل.
خاتمة: من ميلاد القصيدة إلى ميلاد الذات
"ولدتُ وفي قلبي مئذنة" ليست فقط إعلانًا شعريًا بل مانيفستو وجودي، تعيد فيه الشاعرة منية نعيمة جلال صياغة هويتها كامرأة وشاعرة وواعية بألمها ومجدها الشخصي.
إنها قصيدة ولادة جديدة لامرأة عربية معاصرة من تونس — الأرض التي تنجب الشعر والتمرد والأنوثة الناضجة في آنٍ واحد.
تجربة الشاعرة هنا تعكس الوجه الجديد للشعر النسائي العربي، حيث لا تموت القصيدة في الحبر، بل تُولد في الوعي.
اعداد الدكتور موسى الشيخاني
الرئيس التنفيذي لمؤسسة عرار العربية للإعلام
رئيس مجلس إدارة مركز عرار للدراسات الأدبية والنقدية والنقد المقارن
"ولدتُ وفي قلبي مئذنة"
بقلمي : " منية نعيمة جلال"
18/07/2025
يوم عيد ميلادي
في مثل هذا اليوم
لم تُولد امرأة فحسب،
بل وُلدت شاعرة
من رحم الحرف والخذلان،
من العتمة التي أنجبت الضوء،
ومن وجعٍ صار له جناح.
أنا منية نعيمة جلال،
أكتب لأنني لا أحتمل الصمت،
وأصمت أحيانًا لأن القصيدة
تحتاج لفسحة وجع كي تكتمل.
✦ إهداء ✦
- إلى كلّ امرأة تعانق الحياة ولا تُسلّمها مفاتيحها كلّها
-إلى الجويليين…
أولئك الذين ولدوا من وهج الشّمس لا من رحم الظلّ ...الذين يسكنهم قمرٌ رومانسيّ،
تغمرهم العاطفة حتى الأعماق،
ويُولدون كلّ يوم من جديد،
كأنهم لم يُهزموا بالأمس.
-وإلى التّموزيين…
أبناء الحرائق النبيلة،
الذين حين يُخذَلون لا ينكسرون،
بل ينهضون من رمادهم
كأن الوجع ماءٌ خفيّ يسقيهم.
أنتم الذين
تتّخذون من الحب دينًا،
ومن الوفاء ديدنًا،
تضحكون وتبكون في لحظة الفرح
لأن قلوبكم أوسع من التناقض.
أنتم الذين
حين ينهار العالم،
تُضيئون أرواحكم بشمعة داخلية
لا تُطفئها رياح الخسارة.
ولأن جويلية
هو الشهر الأنثى الوحيد،
كان لا بدّ أن تولد فيه امرأة
تكتب نفسها كل عام،
وتضع قلبها مئذنة
ترفَعُ الأذانَ إلى داخلها.
القصيدة:
"ولدتُ وفي قلبي مئذنة"
ولدتُ وفي قلبي مئذنة
وفي يدي شقُّ نخلةٍ
تدعو الماءَ أن يصعد إليّ.
كأنني آخر الناجين
من طوفان الدمع،
أمشي على شرفةٍ من وجع،
ولا أسقط.
اليوم أبلغ منّي…
كما لم أبلغني من قبل،
أمسح رمادي بشالٍ
كنتُ قد نسجتُه من دمعٍ
ونقشته بخيوط الضحك المؤجّل.
أنا ابنة الحبر الذي لم يُقرأ،
وحبيبة المواعيد التي لم تُفتح،
لكني… لستُ بعد اليوم
قصيدة ضائعة الإيقاع،
بل نايٌ يعزف وحده
لأنه تعلّم السُّلمَ
من نُشازِ الحياة.
أعيادي ليست بالشموع،
بل بشفاهي التي ذاقت الصمت
ثم تعلّمت النطق من جديد.
أكتب على جلدي:
كل خذلانٍ مرّ بي
كان طريقًا إلى اسمي،
وكل غيابٍ
كان مرآتي حين ضيّعتني الزحمة.
يا أيّها الذي لن يعود…
أشكرُك لأنك لم تكن،
فقد ولدتني كما أولد الآن:
ناضجة، بهية،
امرأة تعانق الحياة
دون أن تخلع عنها حكمة الوجع.
اليوم…
أُطفئ شمعةً في قلبي،
وأشعل أخرى في رأسي.
اليوم…
ولدتُ
وفي قلبي مئذنة
ترفع الأذان إلى داخلي.
م/ نعيمة جلال
آخر المنشورات
الاثنين، 21 يوليو 2025
قراءة نقدية لقصيدة "ولدتُ وفي قلبي مئذنة" للشاعرة منية جلال ...بقلم د. موسى الشيخاني
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق