آخر المنشورات

الاثنين، 7 يوليو 2025

بيت مهجور بقلم الكاتب عمر أحمد العلوش

 ( بيت مهجور )


بيت أعود إليه كلما اختنقت بي المدن،أو ضاقت بي وجوه الذين لا يعرفون كيف يصمتون ،ترددتُ كثيراً قبل أن أعود ،ليس لأنني نسيت الطريق،بل لأنني أخاف أن أرى قلبي في الزاوية ذاتها،ينتظرني كما انتظرتُ أنا عودةً لم تأتِ.

البيت مهجور إلا من قلبي ،وصدى صوتها،التراب على العتبة والغبار على المقابض،والصمت هو الوحيد الذي يفتح الباب ،دخلتُ بعد تردد كمن يضع يده على جرح قديم،خائفاً ألا يؤلمه بعد الآن، ذلك أن الألم  دليلاً على أنه ما زال حياً.

الحذاء  ما زال عند المدخل،ضاق عن قدمها ،أم قدمها كانت كذلك لكنه لم يضق عن الخطوة التي أخذتها يوماً ، تلك الخطوة التي فقدتُها، كما فُقد الذين كنت أركض إليهم. 

على الرف اصطفت معلبات منسية، مثل جنود خاسرين في حرب منسية، لكنني لم أملك أن أرميها،فبعض الأشياء لا تفسد، بل تتحول إلى ذاكرة.

في منتصف الجدار، ساعة بلا عقارب التي كانت تدق فيّ أكثر مما تدق في الحائط،كأنها تقول لي:الوقت لم يمر بك، بل مر عليك.

معطفها المنسي ما زال هناك  معطف اتسع لحنان لم أعد أملكه.

ومفتاحٌ على طاولة تهالكة لا أذكر لأي باب هو، لكنه يفتح فيّ أبواباً كثيرة،كلها تُفضي لها وأُغلق.

مررت بين أركانه كأني أفتش عن نبضي ، لا كمن يفتش عن أشياء، بل كمن يمر بجراحه واحدة تلو الأخرى.

لم أكن أبحث عنها كنت أبحث عني، بين ما تبقى منها.


على طاولة المرآة، مشطٌ وأحمر شفاه، في المشط ما زال شيء من شَعرها، شَعرٌ بدا لي حياً،كأنه يرفض أن يغادر، لم ألمسه، كأني أخاف إن أزحته أن تذهب معه بقية ملامحها من ذاكرتي.

أحمر الشفاه،كُسرت قاعدته وسُحبت منه لمسة كانت آخر لحظة وضعت فيها شيئاً من جمالها على المرآة، ذلك الجمال الذي لم يكتفِ بأن يُرى، بل بقي يُقيم فيي ، المرآة ذاتها ما زالت تعكس وجهي حين كنت جميلاً بها.

على السرير دفتر مفتوح ، صفحةٌ مكتوب فيها من ذات مساء : (انتظرني) أعرف صاحبة الخط المرتجف كما روحي ،كأنه رسالة كتبها شخصٌ تاه في القدر، ولا أستطيع أن أكف عن انتظاره.

كوبان ما زالا ينتظران على طاولة أخرى،كما تركناهما،حتى ملعقة السكر ما زالت تحتضن بقايا السكر، كأنها تأبى الجحود،خوفاً من أن تنسى شكل فمٍ لم يكتمل به الحديث ،

أو كأنها تتذكر صوت ضحكتها .

عبوة العطر بجوار السرير، تهمس لي كلما مررت بها:كم كنتَ جميلاً ذلك اليوم .

هكذا عدت ، لا لأقيم فيه، بل لأيقيم بي.لأتحسس ما تبقى مني حين خرجت منه ذات يوم،ممتلئاً بالغياب…فارغاً من كل شيء إلا قلبي.

عدتُ إلى البيت المهجور،لا لأنني أشتاق إليه فحسب بل لأنه المكان الوحيد الذي أجد روحي بصمته.ليحتضنني كما يُحتضن الراحل في الحلم قلباً احترق ، ولم ينطفئ .


✍️ بقلمي عمر أحمد العلوش



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق