آخر المنشورات

الخميس، 17 يوليو 2025

شذرات من دفتر الحزن بقلم الناقد والكاتب الصحفي ( محمد المحسن)

 شذرات من دفتر الحزن ( محمد المحسن)  

 

كتب عني نجلي-رحمه الله-فقال..


تصدير : في الحياة قد تخسر حلما،وقد تفقد أملا..وقد تتنازل عن أمنية..لكن كن حريصا ألا تخسر أبويك أبدا..


 لم يكن أبي يوما ما..رجلا عادياً..

شعره أبيض كلَبن أمي..وقلبه أكثر بياضا من العدم..

ولكن..

في كل المرات التي أربكتني الدنيا بمواقفها الموحشة وجها لوجه،أو أشاحت بوجهها عني..وأوغل ليلي في الدياجير..كنت أختبئ خلف ظل أبي..وأطل عليه من خلف نوافذ الروح..وكهوف القلب،وهو يلهث خلف الرغيف..سائرا حافيا على ثلج الدروب كي لا ينال الجوع منا..

وها أنّي أراه ملتحفا بالغياب يتراءى وبإلكاد يرى لا سيما في الأيّام الشتائية الماطرة حين السحب تترجّل على الأرض ضبابا،كثيرا ما كنت أراه..قد يكون الأمر مجرّد أوهام بائسة ورؤى منهكة يكتنزها اللاشعور لكنها تنفلت أحيانا من رقابته،كي تتحوّل إلى نداء خفوت يمجّد الحقّ ويناصر العدل.. 

أحتاج أبي بكل ما في النّفس من شجن وحيرة وغضب عاصف..أحتاجه لألعن في حضرة عينيه المفعمتين بالآسى رجالا أكلوا من جرابه وشربوا من كأسه واستظلّوا بظلّه عند لفح الهجير..لم يبخل عليهم بشيء وعلّمهم الرماية والغواية والشدو البهي..واليوم تحلّقوا في كل بؤرة وحضيض لينهشوا لحمه وحروف إسمه..!

سأكتب عن طفولتي التي لم تكتمل بعد،وسأرسم  على سديم الدنيا تواريخ رجال أتقياء ما هادنوا الدّهر يوما..رجال تشرق مكارمهم وتتجلى ورعا  وإيمانا..من المؤكّد أنّ والدي منهم..والدي الذي يخوض تجربة الحياة بمهارة..ظلاله ستظل ممتدة من الجغرافيا إلى ارتعاشات القلب..ستظل هنا على عتبات الرّوح مثل رفّ جناح..

طفولتي شائكة ومتشعّبة مثل صبر أبي تماما،وكياني مكتظّ بالوجوه والذوات..

مرّ غيم الجوع،ولم يمرّ جوع الأرض..ظلّ جاثما على الرقاب..والدي كذلك سيظلّ يرتّل صلواته جهرا وأنا أسمعها-فجرا-كلّما مرّت رياح الجنوب بحذوي..أوكلما صهل الخراب في داخلي..

آه يا والدي..سأبقي المصابيح موقدة في فيض الصباح..مصالحة بين صحو الصباح وصحوي..وأبقي رياح الجنوب بوصلتي  ودليلي..وأسأل عنك وأنت تراقص الرّوح في زمن الجدب..يوم كانت المحيطات تنام بحضنك..وما زال ثوبك يخضرّ من مائها..!

أحاول جاهدا إعتلاء عرش المحبّة والدّعاء..أجاهد كي أتدرّج بتقوايَ من مقام الدهشة الأولى إلى الإشراق في آيات الله وأهمّ بالنجوى،حديث الرّوح في أسفاره الكبرى،حصى التسبيح.

ها أنّي أسبّح ،لكنّ أسماء اللّه لا تعدّ..وها أني أدعو لأبي خيرا كي لا تنال المواجع منه..

امسك بقلمك جيدا-يا والدي-وتمترس خلف خط الدفاع الأول عن الأرض والعرض والوطن..فهذا زمن الخسارات الكبرى..زمن الهزيمة والإنكسار..وأرجو من الله..أن لا تسقط...أن لا أسقط*..

ولك ولبلادي سلة ورد..وباقة من التحايا.. 


غسان المحسن-رحمه الله-


*قال إبني-رحمه الله-في سياق حديثه عني " أرجو من الله..أن لا أسقط " لكن نجمه سقط في الأفول ذات زمن دامع،بعد أن استرددت برحيله حقي في البكاء..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق