آخر المنشورات

السبت، 16 أغسطس 2025

صيف المبدعين ( إعداد وتقديم الصحفية بجريدة الشروق التونسية وحيدة المي) الشّاعر والناقد محمّد المحسن

 صيف المبدعين ( إعداد وتقديم الصحفية بجريدة الشروق التونسية وحيدة المي)


الشّاعر والناقد محمّد المحسن     


أعمال  شاقّة وبيع " السندويتشات" على ضفاف  حلق الوادي


*بعت جائزتي الكبرى  ببضع مليمات، كنت الأوّل بولاية مدنين   ،و  يوم سلّمتها لابن أحد الأثرياء بكيت كرضيع شحّ لبن أمه


*كان صاحب المخبزة جشعا ، يخصم من أجرتي اليومية  رغيفين ومائتي مليم حين يكون الحساب ناقصا و يفتكّ منّي صبيان جيّاع  بعض الأرغفة


 


تونس-الشّروق-وحيدة المي


نعم تُفتح نوافذ الصيف على الأوجاع  أيضا. عندما يغيب البحر والليل والسّمر والأفراح والأهازيج  وتكون الطفولة معطوبة ، ماذا نفعل؟ وما الحل؟.طبعا علينا الإصغاء للجّرح وصاحبه، ففي النّهاية لا أحد يتبرّأ من ذاكرته السّوداء بسهولة أو يُشفى منها . و ضيف اليوم أعادنا إلى طفولة ما بعد الاستقلال "نهشها الجوع بنابه الأزرق" في "سنوات عجاف" ،  لم يعرف فيها وإخوته " طعم الحلوى والسكاكر،ولم يتذوّقوا اللحوم والفواكه إلا في "الأعياد والمناسبات عند الجيران". لم يَضع قناعا على الوجه وهو يكتب عن طفولة محرومة ، طفولة الفقر المدقع والجوع ،كان شفيفا، صادقا ،كادحا بين "الأعمال الشاقة " من الحضاىر  و"المرمّة وبيع السوندوينشات وخبز الطابونة " إلى كتابة "رسائل إلى أزواج وأقارب بعض الجارات بفرنسا " مقابل  بعض المليمات. فتح الشّاعر والناقد محمّد المحسن خزين الذّكريات ونبش في جرح نُقش في ذاكرته كنقش على حجر...


فتحت عيني على أمنا الدنيا ذات فجر رمادي موغل في المواجع،بعد الإستقلال بثلاث عجاف..ليكون لي موعد مع طفولة معطوبة،ينهشها الجوع بنابه الأزرق المتوحّش.. و لدت في بيت منحنا إياه ذوي القلوب الرحيمة على وجه الإحسان،فلا مال لنا،ولا حياة تعاش في كنف الاطمئنان وراحة البال، إذ كان والدي رحمه الله-جواب آفاق-،يسير حافيا على ثلج الدروب ثمّ يعود إلينا بيدين فارغتين .أما أمي رحمها الله،فكانت  تبكي بصمت لحالي وحال إخوتي حين ننام جياع..وأذكر أننا ظللنا تسع ليالي نقتات على مسحوق الدّقيق بعد أن تخلطه أمي بقليل من الماء. مازالت  أمي هنا على عتبات الرّوح مثل رف جناح ، ومازلت أراها اليوم وهي قابعة في ركن البيت الآيل للسقوط  ترتق بالإبرة  ثيابنا الرثة ، بعنا أدباشنا  بثمن زهيد  بعدما تراجعت صدقات المحسنين وشحّ المال والماء والأمل..

 وأذكر أن شقيقتي الكبرى ظلت دون حذاء لما يزيد عن سنتين أو أكثر،أما أنا فقد بعت جائزتي الكبرى التي تحصلت عليها كتلميذ متميز في السنة الرابعة إبتدائي،  إذ كنت الأول على مستوى ولاية مدنين ( كانت جهة تطاوين زمنئذ،معتمدية تابعة لولاية مدنين..ولم تتحول إلى ولاية إلا سنة 1981 ) قلت  بعت جائزتي الثمينة ( كتب،كراسات،أقلام،وقصص للأطفال..) لإبن أحد الأثرياء ببضع مليمات،وأشهد أمام الله أني بكيت،كرضيع شحّ لبن أمه أثناء تسليمها لفتى ثري في مثل عمري..

.

في السادسة إبتدائي مازال ساعدي غضا،يافعا،ولم يتجاوز عمري الثـانيـة عشـرة "انتدبني" خباز لأعمل معه كبائع جوال لأرغفة " خبز الطابونة" من انبلاج الفجر حتى بعد الظهيرة،و كان صاحب المخبزة جشعا، إذ يخصم من أجرتي اليومية الزهيدة رغيفين ومائتي مليم   ،حين يكون الحساب ناقصا ،إذ لطالما يهجم علي صبيان جيّاع ويفتكّون مني بعض الأرغفة، مستغلين ضعف بنيتي الجسدية وعدم قدرتي على الإشتباك معهم لإسترداد تلك الأرغفة المنهوبة..! وكنت أسير بين أحياء مدينتي  تطاوين حافيا  مناديا بصوت مخنوق " خبز طابونة سخون يا وكالة".

لم أكن ماهرا في البيع،فأستغنى الخبّاز عن خدماتي، وداهمنا الجوع الكافر من جديد،سيما أن والدي أصبح عاجزا تماما عن العمل بسبب مرض عضال واضطرت والدتي للعمل في بيوت ميسوري الحال، كمنظفة، وتشتت شملنا بعد أن تحولت شقيقاتي بدورهن إلى خادمات في بيوت الجيران وبعض العائلات الميسورة.

مازلت أذكر تلك اللحظة البهيجة التي ربطتني بالكتابة،عندما كنت تلميذا بالمرحلة الإبتدائية، كانت أمي تطلب مني كتابة رسائل إلى أزواج وأقارب بعض الجارات بفرنسا للاستفسار عن حالهم،وكان علي  الاجتهاد لاختزان كلمات جديدة أبهر بها أمي وأنافس بها أترابي و أتقاضى بعض المليمات عن كل رسالة أكتبها كي نشتري بها زيتا ودقيقا .

في الأولى ثانوي ( نظام قديم سنة 1971) وخلال فصل الصيف،انضممت إلى عمال الحضيرة " الشانطي"،ثم انتقلت إلى  " المرمة" وقد اشتد عودي قليلا وابتدأت رحلتي مع العذاب،واستمرت لسنوات طوال،في مراوحة بين شغف الدراسة،و إكراهات الأعمال الشاقة في العطل،وفصل الصيف..

هي ذي طفولتي،المظلمة والمضطربة،وقد عشتها وسط أسرة ينهشها الجوع الطاحن وتعصف بها تقلبات الحياة وحيف الأزمنة المفروشة بالمظالم..لم أعرف فيها طعم الحلوى والسكاكر،ومازلت أذكر أننا كنا ننتظر الأعياد والمناسبات عند الجيران كي نتذوق اللحوم والفواكه التي حرمنا منها عبر سنين عجاف..

‏تركت هذه الطفولة آثارًا لا تُمحى من حياتي..وظل سوادها يلتحف بضلوعي،ويثير عواصف ألم في ذاكرتي الموجوعة..

‏نجحت في امتحان البكالوريا بامتياز..وكنت أرسل لعائلتي المعوزة جزءا كبيرا من منحة الدراسة بالجامعة التونسية..وأعمل في فصل الصيف بائع " سندويتشات" على ضفاف بحر حلق الوادي. ولم تنتهي قصتي بعد..والستارة لم تنسدل على مسرحية حياتي المعطوبة.

هي ذي قصتي اليوم مجلّلة بالوجع ومطرزّة بالبهاء: أمل يرفرف كلما هبّت نسمة من هواء..ثمّة فسحة من أمل..خطوة بإتجاه الطريق المؤدية، خطوة..خطوتان ومن حقّنا أن نواصل الحلم.

ولتحيا الحياة..

********************


حين يهجع الثّلج تحت جفون المساء..


الإهداء:إلى أمي في مرقدها الأبدي..أمي التي أنجبتني في عتمات الفصول..وشمخت فوق زخّات العذاب حين آتاه الذبول..


حين تجوع..يا إبني وتبكي

وينساب الدّمع على خديك 

غضوب

لا تشدّ بجرحي وتشكو

حيفَ الزمان..

وقحط الدروب

      وترنّم بعشق الليالي..وعشقي

لإنبلاج الفجر على ربوع الجنوب

***

حين يهجع الثلج

             تحت جفون المساء..

وينمو عشب الشوق..

         فوق العيون الدامعات..

يفتح الوجد للغرباء 

أحضانه

ويعزف القلب للصبح أوتاره..

                          الخالدات

وتشرق في فيض القصيد..

                       الدياجي

وتحتفي القوافي..

  بعطر هذا البهاء

وتزهر من حولك الأمسيات

 التي قد توارت

             وتصحو الرّوح من غفوة الحلم..

والأمنيات

لملم شتيت الرؤى..

     وأرنو بشوقك إلى الشامخات

وأطلق يديك..

تلامس أطياف ذاك المـــــــــــدى

 حيث الهدى..

والتجلي

ولا تبك دهرا..

                    مضى وتولّى

فما بالتنمني..يصاغ القصيد

وينساب عطرا..

            على القافيات..


********


من هو محمّد المحسن؟


كاتب صحفي،يكتب بصحف تونسية وعربية..أصيل جهة تطاوين..شاعر،وناقد.. . كاتب عام إتحاد الكتاب التونسيين-فرع تطاوين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق