آخر المنشورات

الأربعاء، 20 أغسطس 2025

الصدق الفني في قصيدة الشاعر التونسي القدير محمد الهادي الجزيري" أبكي على وجه..أطلّ عليّ في حظّ الشباب" ( حين يبكي الشاعر..تتوجع القصيدة ) بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 الصدق الفني في قصيدة الشاعر التونسي القدير محمد الهادي الجزيري" أبكي على وجه..أطلّ عليّ في حظّ الشباب"

      ( حين يبكي الشاعر..تتوجع القصيدة )


قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن أمنا الدنيا مترعة بالدموع،وزماننا مفروش بالرحيل..فالفواجع في هذه الحياة كثيرة،تأتي في النفس والمال والولد وفي الصديق والرفيق وفي رفيقة العمر ( قصيدة "أبكي على وجه..أطلّ عليّ في حظّ الشباب"-للشاعر الكبير محمد الهادي الجزيري- نموذجا ) 

لا أقدم هنا دراسة أكاديمية في قصيدة محمد الهادي الجزيري،وإنما أتفاعل حزنا ووجعا،بفواجعه وأحاول أن أتوحد بالنص وأقدمه من رؤية قارئ شغف بالإبداع والتجديد..

نص-في تقديري-جدير بالاستقصاء بعيدا عن أسس البلاغة الكلاسيكية وتنظيراتها المغرقة في شكلياتها التي أظن أنها فقدت دورها التاريخي..

نص يفيض حزنا ووجعا..عن زوجة كانت بالنسبة للشاعر ( محمد الهادي الجزيري) وسادة ريش يتكىء عليها كلما داهمه السقوط،أو نالت منه المواجع في نخاع العظم..

يمتلك الشاعر الجزيري نفسا بنائيا مختلفا للقصيدة،ولن أتحدث هنا عن وحدة النص، فالقصيدة التي نحن بصددها تكاد تشكل نصوصا متناسقة،وإنما عن تجزيء الشاعر لقصيدته لتشكل مقاطع متناسقة الجرس الموسيقي،ومتناسقة الخطاب اللغوي..وقد جمع الشاعر في قصيدته هذه أقسى المواجع،فما في القلب أقسى من لغة القصائد،قالها الشاعر بثقة العارف بوجع القصيدة على صاحبها وعلى المتلقّي أيضا.

اصطحبنا الشاعر برحلة نفسيّة صعبة،وموغلة في الوجع،كان كل حرف فيها يمرّ على القلب يزيد من اتساع رقعة جرحه..

وهنا أقول : لم تكن القصيدة تشبه الرثاء،بل كانت رثاء كاملا حمل كل المعاني.فالشاعر متمكّن من ناصية اللغة،يشكّل الكلمات ويرتبها بإتقان المتمرس.تكون بين يديه أشبه بالعجينة،يصنع منها لوحة فنان.

هذا شاعر يعي ما يقول وهو يكتب وكأنّه ينحت في صخر:صخر القدر الصاعق،وصخر اللغة التي تحمل غبارها وشظاياها وانكساراتها وأحزانها،وكأنّه -يلسعها-بكلماته فتتوجع،أو يسعى لإستدراج قارئه لمربع الألم فينخرط معه-قسر الإرادة-في نوبة بكاء بصوت مشنوق..وأرجو من القراء الكرام،ضبط النفس،وحبس الدموع..في حضرة الجرح..وجراحك يا-محمد- ستندمل..

صبرا جميلا-يا شاعرنا الفذ-


أبكي فقط*

أبكي... لأنّي لنْ أكفّ عن البكاءِ

ولن أتوبَ عن الحياةْ


أبكي على وجه..

 أطلّ عليّ في حظّ الشباب

فدلّني ..

ودخلتُ في دين الهوى..  

  أمْ صادني وجه الفتاةْ ؟؟؟

   

أبكي يدينِ صغيرتين 

تبنّتا أمّي ..وعائلتي

ويوم سقطتُ ..كالمذبوح   في مرضي

وجدتهما يديّ ...

تلبّيان مطالبي بالرغمِ أنّي كالرُفاتْ


أبكي على ما كان شعرَ حبيبتي

لمّا تساقط بغتة كالليل ..

أجزاء مجزّئة ..

وأشلاء مكوّمة...

 ليعلنَ بدء توقيت السباتْ


أبكي.. فهذا ليس نوما...

بل سباتٌ لا إفاقة منه..

 والحلّ الذهاب إليه

كي يلقى الحبيب حبيبه..

 بعد الشتاتْ


أبكي على حبّي الذي ضحّى وضحّى ثمّ ضحّى..

 ثمّ ماتْ

أبكي أمام الله.. وحدي..

 آه كم أصبحتُ وحدي

منذ غبتِ عليّ يا روحي..

أراوحُ في فلاة مبهمَ المعنى

وأخرج منهُ مضطربا

وأدخل في فلاةْ

قد كنتِ زادي والقصيدةَ والدواةْ

كنتِ الذي لا يُستعادُ 

وحافزا لنصير أبهى في الحياةْ 

كنتِ  الوسيلة والأداةْ


أبكي نعم

أبكي جهارا مثل كلّ الناس..

 لمّا يُرغمون على حياة كالمماتْ

أو خلسة لمّا... ينام الناس والدنيا تنامُ

و تقبلين عليّ من أنأى وأخصبَ ذكرياتْ


أبكي أنا والبيت..

الغرف الكئيبة... تشتكي فقدان ذاتكِ

وقعِ خطوك

طعمِ صوتك

آه يا بكمي

ويا عجز اللغاتْ


* سأسبق الزمن بقصيدة البكاء

فعمّا قريب سأحتفل بعيد ميلادها الثالث والخمسين

تلك هي الحياة..


*ملحوظة : حين قرأت هذه القصيدة التي صيغت بمداد الروح،كدت أن أخرج عن مألوف الرجال وجميل صبرهم،وأنخرط في نحيب شفيف..فأنا-مكلوم-كالشاعر تماما،إلا أني أعض على جرحي،بصبر الأنبياء..ونيابة عن محمد الهادي الجزيري،سأهدي قصيدته هذه،إلى كل من بكى على أوتار الوفاء،وعرف معنى الإخلاص بعد فقد أليفه،إلى كل من ذاق لوعة الفراق،وصان ذكرياته الهانئة مع أنيسه..وكفى..

ختاما أقول : محمد الهادي الجزيري..شاعر مسكون بالحرف،والشعر بالنسبة إليه وطن يلجأ إليه..وهو يعرف جيدا..كم وجعا يحتاج إلى قصيدة..!

لكن في كل هذا وذاك يمتح من حب لا ضفاف له ولا شطآن..

صبرا جميلا-يا محمد-


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق