حوار مع الفنان محمد حسين كمر: خبير المقامات العراقية الذي حافظ على تراثها الأصيل
حاورته: دنيا صاحب – العراق
(The second part)
بدأنا الحديث في حوار حصري مع الفنان الدكتور محمد حسين كمر لمعرفة أنواع المقام العراقي، هذا التراث الموسيقي العريق الذي يشكّل جزءًا لا يتجزأ من هوية العراق الثقافية. انطلقت مسيرة الفنان محمد حسين كمر منذ التحاقه بمعهد الدراسات النغمية عام 1975، حيث رافق كبار رواد المقام العراقي مثل شعوبي إبراهيم وهاشم الرجب، وشارك في إثراء هذا الفن في محافل عربية وعالمية.
يتناول الفنان محمد حسين كمر شرح الفصول الأساسية للمقام العراقي وأركانه الخمسة، ويستعرض دور الفرقة الموسيقية التقليدية "الجالغي البغدادي" في أدائه، بالإضافة إلى علاقته الفنية والشخصية بالموسيقار نصير شمه ودعمه المستمر لمشروعه الوطني الكبير لتسجيل وتوثيق المقامات العراقية.
وهذا النقاش يتيح للمتابع الغوص في أعماق التراث الموسيقي للمقام العراقي، وفهم خبرة وأسلوب الفنان محمد حسين كمر في التدريس الأكاديمي، وكيف حافظ على قواعد أصالته على مدى العقود الماضية.
• ما هي الفصول الرئيسية التي يتألف منها المقام العراقي؟
أولًا، سُمّي بالمقام العراقي لأنه تميّز واشتهر في العراق وفق الأسلوب الذي عُرِف به، ولأن الموسيقيين العراقيين يؤدونه بأسلوب يختلف عن ألوان الغناء المعروفة في البلدان العربية الأخرى، التي تعتبر هذا الأسلوب من الغناء خاصًا بالعراق. فنجد أن البلد الوحيد الذي اقترن اسمه بأسلوب غنائي هو العراق، فنقول: المقام العراقي.
ويختلف مفهوم المقام موسيقيًا في العراق عن مفهومه الموسيقي في البلدان العربية الأخرى؛ ففي العراق يعني أسلوبًا غنائيًا له من الأصول والقواعد المتوارثة التي ينبغي على قارئ المقام أن يلتزم ويتقيّد بها أثناء أدائه للمقامات، بينما في البلدان الأخرى تعني السلم الموسيقي الذي يتألف من سبع نغمات موسيقية صعودًا، والنغمة الثامنة هي تكرار للنغمة الأولى وتسمى – الجواب – الأوكتاف – Octav. تختلف تسمية هذه السلالم باختلاف الأبعاد التي تفصل بين نغمات السلم الموسيقي صعودًا أو نزولًا.
إن البناء الفني لأداء المقامات العراقية يقوم على التنوع الإيقاعي واللحني في الأداء. ونعني بالتنوع اللحني تلك المسارات والحركة الفنية المتناسقة والمستمرة، المتصلة بالتغير والتنوع بين السلالم والأجناس الموسيقية والغنائية، والتي سُمّيت بالقطع والأوصال، والاستمرار في أداء المقام كوحدة متكاملة. لذلك، فإن قارئ المقام يحتاج إلى مساحة صوتية واسعة وقدرة على الانتقالات والتنويعات النغمية والارتجالية التي تسمى بالقطع والأوصال، وهي واحدة من خمسة عناصر أساسية يعتمد عليها كل مقام على حدة في بنائه اللحني والموسيقي، والتي سنأتي على ذكرها الآن.
وتسلسل هذه الأركان، التي يجب أن يتقيّد بها قارئ المقام كبناء فني للمقامات العراقية، هو: التحرير والبدوة، القطع والأوصال، الجلسة، الميانة، التسليم.
• ما هي الفرقة الموسيقية التي تصاحب قارئ المقام العراقي؟ وما أبرز صيغ المقام العراقي ؟
الفرقة التي تصاحب قارئ المقام العراقي تسمى بفرقة الجالغي البغدادي.
الجالغي بالجيم الفارسية المثلثة (هي كلمة تركية الأصل تعني "جماعة اللهو"، وأصل التركيب – جالغي طاقمسي – أي جماعة الملاهي). وقد أشار حسين قدوري في موسوعته الموسيقية إلى أن الجالغي تعني جماعة الطرب أو طاقم الموسيقى، ويبدو أن لفظة "جالغي" في نظر البغداديين كانت تعني حفلة غنائية تقام في الأماسي وفي مناسبات الأفراح والأعراس والختان وغيرها.
والجالغي البغدادي، كما هو معروف، فرقة موسيقية صغيرة تُصاحب قارئ المقام، وتتألف من عازفي الآلات الموسيقية التراثية التقليدية: الجوزة، السنطور، الطبلة، الرق، النقارة. ولأن المقام العراقي نشأ في مدينة بغداد، فقد سميت الفرقة بالجالغي البغدادي.
ويجب أن تتوفر في أعضاء هذه الفرقة الخبرة والمعرفة بأصول المقام العراقي وقواعده، لأنهم يقومون بأدائه عزفًا على آلاتهم الموسيقية، ولأن القارئ يكون تابعًا في بعض الأحيان إلى الفرقة التي ترسم له الطريق في الانتقالات النغمية. وهذا عكس ما هو معروف عن التخت في الغناء الشرقي، الذي يكون هو تابعًا للمطرب. هناك بعض أركان المقام وقطعه وأوصاله يجب على العازفين الدخول بها أولًا وقبل قارئ المقام، إضافة إلى عزفهم أنغامًا كثيرة ومتنوعة متفقًا عليها بين قطعة وأخرى في هذه المقامات.
ويُشترط كذلك في عازفي الجالغي أن يكونوا ممن يتمتعون بجمال الصوت وحسن الأداء، لأن مهمتهم كانت تتعدى العزف إلى ترديد البستات التي تُغنّى في نهاية كل مقام، وذلك لمنح القارئ الاستراحة والتهيؤ لغناء مقام آخر.
إن الصيغ التي كان يُمارس عبرها المقام العراقي في السابق عديدة، وقد ظلت هذه الصيغ فاعلة حتى وقت متأخر من تاريخنا المعاصر. ومن أبرز هذه الصيغ:
1- المقامات العراقية في الموالد والأذكار والمناقب النبوية.
2- المقامات العراقية في التمجيد على المنابر.
3- المقامات العراقية في المقاهي والمجالس.
4- المقامات العراقية في الزورخانة.
• كيف ترى مستقبل المقام العراقي في ظل التيارات الموسيقية الحديثة والتقنيات الرقمية المتسارعة؟
من خلال خبرتي الطويلة الممتدة إلى نصف قرن، أود أن أنبّه مؤسساتنا الثقافية والفنية والمسؤولين في وزارة الثقافة، مذكّرًا ومنبّهًا إلى خطورة الموقف، مقترحًا تسجيل وتوثيق وأرشفة هذا التراث قبل فوات الأوان، خاصة ونحن نمتلك الآن هؤلاء المؤدين الجيدين والمؤهلين لهذه المهمة، وهم في قمة نضجهم وعطائهم الفني.
ولما نعهده من مؤسسة اليونسكو الراعية دائمًا لثقافة وتراث الشعوب، وبدعمها لحقول الثقافة والفنون، إضافة إلى الجهات والشخصيات الساندة الأخرى وما تنجزه من اهتمام ودعم للمشاريع الإبداعية بما ينسجم مع الأهداف التي نسعى جميعًا لتحقيقها، آملين أن يلقى مشروعنا، الذي يندرج ضمن محاولات الحفاظ على التراث العراقي الأصيل، اهتمامًا ودعمًا من هذه الجهات، خدمةً للحفاظ على تراث بلاد
ما بين النهرين من الضياع والانقراض.





ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق