آخر المنشورات

الأحد، 28 سبتمبر 2025

" أنا وملجأ الأيتام " بقلم الكاتب طارق غريب

 " أنا وملجأ الأيتام "

في عش الدبابير 

صرخة العاجز وشوشات وأنين

الستار يرتفع ببطء

قاعة مظلمة إلا من بصيص نور ،

 يتسلل من نافذة عالية مكسورة.

الجدران متآكلة ، الرطوبة تلتهم الطلاء،

 والأسرة الحديدية تصدر صريراً مع كل حركة.

أطفال بملابس رثة ، عيونهم غائرة ،

 تائهة بين الخوف والرجاء ،

 يلوكون كسرة خبز يابسة كأنها آخر ما تبقى من الحياة.

 (طارق يتقدم إلى الأمام ، صوته يخرج متهدجًا لكنه مصمم)

طارق:

هنا حيث يختبئ الصمت في العيون الصغيرة.

هنا يولد الحزن قبل أن يتعلم الأطفال الكلام.

هنا كل جدار يحمل دمعة لم تُمسح ،

وكل نافذة مكسورة حلم لم يكتمل.

(طارق يسكت قليلاً ، يقترب من طفل يجلس على الأرض)

(الطفل بهمس ، عيناه مبللتان ):

كنت أبحث عن وجه أمي بين الوجوه 

قالوا لي إنها ذهبت ولن تعود.

كل ليلة أغلق عينيّ

 وأنا أظن أنها ستدخل الغرفة ،

أستيقظ لأجد البرد مكان حضنها.

وهذا البرد سيبقى معي إلى أن أكبر ،  كذكرى لم تُطفأ.

(طفلة ترفع رأسها بخجل وخوف)

الطفلة :

أبي تركني هنا ، قال لي : "مكانك بينهم".

انتظرته سنوات ، وكل باب يُفتح أظنه هو.

الحلم يظل بابًا يُغلق أمامي.

وأظنه الآن جزء من حكاية لا تنتهي في قلبي.

(طفل يرفع يده المرتعشة ، شفتاه ترتعشان)

الطفل :

لا أعرف طعم الحلوى إلا من صور في الكتب.

أعرف الخبز اليابس وصدى البكاء في الليل.

أحلم فقط بأن يحن عليّ أحد ، ولو مرة.

وسأحمل هذا الحنين كجروح لا تُرى ،

 لا تشفى مع الزمن.

(طفلة صغيرة تمسك لعبة مكسورة ،

 تتحدث كأنها تكشف سرها)

الطفلة :

أخاف من الظلام ،  

يطفئون الأنوار باكراً ويتركوننا وحدنا.

أبكي في الليل ، ثم أضحك كي لا يلاحظوا.

ورغم ذلك ، 

سيبقى خوفي يعيدني كل ليلة إلى البحث عن ضوء لم يأتي.

(طفل ينظر مباشرة إلى الجمهور ، صوته رقيق لكنه ثابت)

الطفل:

أحاول أن أتعلم أسماء الأشياء الكبيرة : 

"بيت" ، "أسرة" ، "أم".

لكن الكلمات تبدو بعيدة ، 

كأنها تعلق فوق سحابة لا أستطيع الوصول إليها.

وسأكبر وأنا أحمل كلماتٍ ناقصة ، 

عن حقي في أن أكون طفلاً فعلاً.

(طفلة جديدة تدخل من زاوية المسرح ، 

تحمل قطعة قماش بالية كأنها كنز)

الطفلة :

هذه القماشة كانت غطاءً لي منذ كنت رضيعة.

لم أجد سواها ، أحتضنها كل ليلة كأنها أمي.

كلما اهترأت أكثر ، أحسست أن حضني يتلاشى معها.

(طفل قصير القامة،

 يضم ذراعيه حول جسده 

، يتحدث بعينين مكسورتين)

الطفل :

لا أحب المرآة  ، لأنني كلما نظرت إليها رأيت نفسي غريباً.

أحاول أن أبتسم مثل باقي الأطفال ،

 لكن ابتسامتي تبدو مكسورة.

ربما لأني كبرت قبل أواني ، 

 كبرت وأنا أبحث عن يد تمسح على وجهي.

(طفلة نحيلة ، تتكلم بصوت متردد كمن يعتذر)

الطفلة :

كل عام أرى زملائي في المدرسة ، 

يذهبون مع أمهاتهم وآبائهم ، وأنا أعود وحدي.

أجلس على الدرج وأنتظر أن يسألني أحد: "أين أهلك؟"

لكن السؤال لا يأتيني ،

 كأنهم يعرفون الجواب ويخافون منه.

فأبقى أنا والدرج ، والانتظار الذي لا ينتهي.

(طفل يمسك كتابًا ممزقًا)

الطفل :

أحب الحكايات ،  لكنها كلها تنتهي ببيتٍ دافئ وأسرة سعيدة.

أغلق الكتاب كل مرة وأنا أتساءل :

أين تنتهي حكايتي أنا؟

ولا أجد غير هذه الصفحات الممزقة التي تشبه حياتي.

(طفل يحمل دمية ممزقة) :

هذه دميتي ، كنتُ أضعها بجانبي حين أنام ، 

كأنها أبي الذي لم يعد.

كنتُ أسألها :

 "هل سمعْتِ صوته في الليل؟ هل سيعود غداً؟"

لكنها صامتة ، صامتة مثلي.

(طفلة تمسك بقطعة خشب كأنها قلم) :

كنتُ أرسم بيتاً على الجدران ،

 كلما انهار جدار ، انهار حلمي معه.

لا بيت يحميني ،

 ولا ورقة تكفي لتحتوي بيتاً آخر في خيالي.

(طفل يبكي وهو يتحدث) :

كنتُ أركض في الساحة ، لم يلتفت أحد حين سقطت.

ضحكوا عليّ ، قالوا إنني بطيء ،

لكنني لا أريد أن أسبقهم ، فقط كنتُ أريد أن أصل.

(طفلة تحمل كتاباً مهترئاً):

هذا كتاب أمي ، أفتحه كل ليلة بحثاً عن رسالةٍ منها.

لكن الصفحات فارغة ، مثل قلبي الذي جفّ.

أقرأ، وأقرأ ،  ولا أجد سوى صمت يلتهمني.

(طفل يرفع حذاءً ممزقاً) :

حذائي مثقوب ،  يسخر مني الطين كلما خطوت.

لكنني أمشي ،

 أمشي وكأنني أخاف أن يتوقف الطريق عن انتظاري.

(طفلة تمسك ببطانية رقيقة) :

كنتُ أرتجف من البرد ، غطيتُ نفسي بها.

لكنها لم تدفئني ،

 بل صارت تذكرني بيدي أمي التي كانت تلفّني برفق.

الآن ،  لا دفء إلا في الدموع.

(طفل يحمل صورة ممزقة) :

هذه صورة أخي ، اختفى في الزحام يوم الغارات.

أبحث عنه في الوجوه ، في الأحلام ،

 في العيون التي تمرّ من أمامي.

لكني لا أجد سوى ظلّي ، وأتمنى لو كان هو.

(طفلة تحمل علبة فارغة) :

كنتُ أضع فيها الحلوى التي لم تأتِ أبداً.

أفتَحها كل ليلة ، أجدها فارغة مثلي.

أحياناً أضع دمعة فيها ، لتملأها بشيء.

( طفل يمسك بطنه) :

كنتُ أجلس أمام المائدة الفارغة ، 

أحلم برغيف خبزٍ طريّ ،

 برائحة أمّي وهي تُعدّ الطعام ،

لكنني استيقظ دائماً على الجوع ،

الجوع الذي يأكلني قبل أن آكل أنا.

(طفلة تحمل كرة بالية مثقوبة) :

كنتُ أركل هذه الكرة ،

أركض خلفها وأضحك ،

لكنها الآن لا ترتدّ ، لا تلعب معي ،

 صارت مثل صدري المثقوب.

لعبتي ماتت ،  مثلي.

(طفل يمسك لوحاً مكسوراً من الخشب) :

كنتُ أكتب عليه الحروف ،

أريد أن أكون معلماً ،  طبيباً ،  شيئاً ، أي شيء!

لكن المعلم رحل ، والمدرسة انهارت ،

وظلّت الحروف بلا معنى ، مثلي بلا مستقبل.

(طفلة تجر وراءها حبلًا ممزقاً) :

كنتُ أقفز به مع صديقاتي ،

نضحك حتى نتعب ،

لكنهن رحلن ، وبقيتُ وحدي أقفز على الفراغ.

الحبل انقطع ، وكذلك طفولتي.

(طفل يحمل كيساً فارغاً) :

كنتُ أملأه باللعب الصغيرة ،

 بالأحجار التي أتخيلها جنوداً وأبطالاً 

الآن هو فارغ ، مثل غرفتنا التي صارت مقبرة.

كلما نظرت داخله ، شعرت أنني أنظر إلى نفسي.

(طفلة تضم وسادة صغيرة) :

كنتُ أضعها تحت رأسي وأحلم ،

لكن أحلامي أصبحت كوابيس.

أرى دائماً باباً يُغلق ، يداً تدفعني إلى الظلام.

لم أعد أريد أن أنام ، لم أعد أريد أن أستيقظ.

(طفل يحمل بقايا شمعة) :

هذه الشمعة ، كانت تضئ لي الطريق.

لكنها احترقت كلها ، ولم يبقَ إلا رمادها.

أخشى أن أكون مثلها ، 

أضيء قليلاً ثم أنطفئ إلى الأبد.

(طارق يرفع صوته ، ألم في نبرته ، لكنه صارم)

طارق :

هل سمعتم ؟ 

كل واحد هنا يحمل قصة ليست له خطيئة فيها.

ليسوا مجرد أرقام أو أطباق تُملأ ليُعاد تفريغها

 ، هم بشر ، 

أرواح تُركت لتكبر على ندوب الإهمال.

طارق ممزق القلب :

كفى!

كفى موتًا في الحياة!

لا تتركوا الجروح تكبر ،

 لأنها تصبح جزءًا من الروح!

(الإضاءة تتصاعد ،

 القاعة تشتعل بنور أبيض يلسع ،

 صرير الحديد يعلو ، أنين الجدران يصرخ.

 طارق يسقط على ركبتيه،

 يصرخ مع الأطفال.)

طارق والأطفال معًا ، بصوت واحد مكثف بالألم :

لن نُمحى من ذاكرة هذا المكان!

لن تُنسى وجوهنا ولا أصواتنا! 

(الأطفال يلتفون حول طارق ، 

أصواتهم تتعالى كجوقةٍ من الألم :

 جوع ،  برد ، فَقْد ، صرخات ممزقة. 

طارق يقف في المركز ، 

ذراعيه مرفوعتان كمن يتحدى السماء.

 فجأة يبدأ صوت تصدع الجدران ، 

المسرح كله يهتز ،

 الضوء يتحول إلى أحمر كدمٍ يغمر المكان).

طارق بصرخة هادرة :

الملجأ  ينهار!!! 

لكن الجدران ليست وحدها التي سقطت

إنها قلوبكم!!!

الأطفال :

نحن الأيتام ، نحن الصرخة  و نحن القيامة!!!

(فجأة يخفت الصوت ، 

 ويبقى طفل واحد فقط في الوسط  ، 

 يحمل شمعة صغيرة مرتجفة.

 يقترب ببطء نحو مقدمة الخشبة ، 

يرفع عينيه نحو الجمهور).

الطفل بهمس مرتجف :

حين تنطفئ شمعتي ، ينطفئ العالم.

(الطفل ينفخ على الشمعة.

ظلام مطلق يبتلع الخشبة.

آخر ما يُسمع : شهقة طويلة ، 

ثم صمت ثقيل كالموت.

الستار يُسدل ببطء والجمهور يظل جالساً مذهولاً، 

كأنه في جنازة كونية).

كل واحد من الجمهور يسأل نفسه سرا :

من القاضي ومن الجلاد؟

تمت

طارق غريب



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق