آخر المنشورات

الخميس، 26 سبتمبر 2024

القَيْنَة و السّلطان...قلم الشاعر جمال الطرودي

 ***القَيْنَة و السّلطان*


ورد إلى السلطان خبر  عن قينة افتتحت مرتعا للّهو، تمارس فيه الغناء و الرقص و البغاء. يقصدها الشاب المحتلم  و الشيخ الذي انقطعت عنده الكهرباء  و من هو بينهما  يركعون أمام جمالها ركوع العابد المتبتّل. لكن، ما أغضب السلطان ليس اللّهو بل إغلاق الدكاكين و إخلاء المصانع و هجر الحقول يوم الحفلة، فعزم على حضور الحفل  و معاينة الأمر عن كثب. 


تنكّر في زيّ فلّاح و وقف في الصف الطويل أمام صرّاف التذاكر الإلكتروني المنصوب عند بوّابة المرتع. عندما وصل مباشرة أمام الصرّاف، انطفأت الشاشة و أُعلن عن نفاد التذاكر. اكفهرّ وجه السلطان و وضع يده عند خصره على مقبض المِشْمَل  . لمّا لمع نصل السيف  القصير من تحت طيّات الثوب ،  لمعت معه شاشة الصراف و انبثقت من فوهته تذكرة سقطت تحت أقدامه التقطها السّيّاف الذي يلازمه  كظلّه و ناوله إيّاها.


عندما تجاوز بوّابة المرتع جهرت عينيه أضواء كاشفة ملوّنة تملأ الفضاء. يتخلّلها  ركح فسيح متلألئ في خلفيّته شاشة عظيمة تعرض لوحات تشكيليه خلقتها مصفوفة حاسوبية. لم يلبث حتى نزلت المغنّية من السماء على أجنحة البجع وانطلقت بقدّها الميّاس الفتّان ترقص كفراشة ذات الف جناح  .هيمنت على المكان. ساد خشوع. محاه صوت حلو يترقرق سلسبيلا في الآذان. هام صاحب الجلالة معها حتى نسي سبب قدومه إلى الحفل و لم يفق إلا عندما أعلنت المصفوفة الحاسوبية عن رقم التذكرة الفائزة التي تسحبها وفق برمحية عشوائية من بين التذاكر المباعة  . دعت صاحب الحظ السعيد  إلى الصعود على الركح كي يأخذ صورة مع المغنية  ثم يرافقها إلى الكواليس. لا يليق بملك الوقوف مع قينة فناب عنه السياف الذي يشبهه في المظهر. أُلتقطت الصور ثم انسحبا إلى الكواليس. دخل الملك غرفتها وانتظر على الأريكة حتى تعدّل هندامها ثم انطلقا في سيارة ليموزين إلى الفندق.

حملهما المصعد إلى الجناح الخاص. انبهر السلطان بالأثاث حيث أن أثاث قصره يظهر خردة أمامه. انبهر أكثر لمّا أعلمته أن الفندق و ما حول الفندق و ما حوى الفندق و المرتع، كلّه، ملك لها. 

أطلقت  ضحكة ألهبته  وهي توقد البخور .  اشتعلت شهوته   لمّا نضّت عن قدّ مغر خلب وعيه فاندفع نحوها كثور هائج، لكن، غلبته اللهفة فقذف قبل بلوغها  و لمّا يمسسها. راوغها و استلقى على السرير على أمل استجماع قواه. استلقت بجانبه. ثقلت جفونه و نام حتى الضحى. 

لمّا استيقظ لم يكلّمها غادر و هو يلعن العجلة.


و هو جالس على العرش، لم يغادر طيفها خياله. لقد ملكت روعه فعزم على حضور الحفل القادم.

في تلك الليلة ، تنكّر في زيّ شحّاذ و قصد المرتع. لم يجد صفّا و لا أحد جاء إلى الحفل. سار ببطء إلى الصرّاف. اقتطع تذكرة. غنّت له  و رقصت. سلبت لبّه رغم أنّه قد سلبها جمهورها. و كان الفائز بالعشاء الفاخر! عندما كانا في الليموزين طلب منها أن لا توقد بخورا متعلّلا انه عنده حساسية ضدّ الروائح القوية. لم تشعل بخورا.  

كي يتمالك نفسه و لا تغلبه الرغبة، جلس إلى طاولة الطعام و جعل يتناول بكل تؤدة ما لذّ و طاب من الأكلات و المشروبات حتى شبع. عندما استلقت بجانبه في قطعتين من الموسلين المشبّك، وجدته قد غلبته التخمة. نام حتى الظهر.

لمّا استيقظ، انسحب كاسرا وهو   يلعن العجلة و الشهوة .


لاحظ عنه وزيره شرودا و تذبذبا في الأحكام، لما وقفت بين يديه امرأة تشكو زوجها متهمة إيّاه بإهمالها و إهمال عياله. طلّقها منه و حكم عليها بنفقة تدفعها له كل شهر عوضا عن الضرر الحاصل له جرّاء افتقاده للجنس.

احتال الوزير في صرف الحاشية ثم اختلى بملكه و سأله عن حاله. حاول الملك المراوغة لكن فطنة الوزير تصدّت له . سحبه بسلاسة إلى الإفصاح بكل وضوح عن علاقته بالقينة و رغبته الجامحة في النيل منها و طلب منه المشورة.

 ارتاع الوزير! إذ لو علمت الملكة بمشورته لتخلّصت منه كما يتخلّص المرء من كلبه، يتّهمه بالسّعار ثم يغرقه، و ما أسهل ذلك عندها. رغم جبروت مليكها فإنّه أمامها يصبح حملا وديعا لا يرفض لها طلبا لمّا تطوّقه بذراعيها و تقول :" أنا تحت رغبة مولاي!". لقد أطبقت  عليه و طوّقته  بأعوانها المنتشرين حتى تحت طبقات الجليز في كل شبر من القصر و عند كل زاوية في المملكة فصار يخشى بطشها. و من يتجرّأ على إغضابها!  

كذلك لو عارض الوزير رغبة سيّده قطع رأسه. حاول وعظه :

- مولاي لو أمرتم ،أحضرْها إليك حالا فتنال منها كما تشاء فما هي إلا متاع من أمتعتك المنتشرة على أرض مملكتك. اجعلها جارية لك كآلاف الجواري اللواتي يعجّ بهن الحريملك.

- أريد قطع صريمتها، فلا طعم عندي لنصر أغتصبه من ضعيف!

- هذه أخلاق الملوك! دمت مولاي نصيرا للضعفاء! اسمح لي ببعض الوقت للتفكير. 


جلس ثم أطرق ثم رفع راسه 

 - هلّا تسمحون  لي يا مولاي  بأشعال غليوني!

كان ينفث دخانا  ملبّدا من منخرين واسعين في أنف كبير معقّف بين عينين جاحظتين.


في الليلة الثالثة

 تنكّر الملك في زي تاجر غريب و وقف في الصف. اقتطع التذكرة و دخل بين الجماهير حتى إذا جاء الإعلان على التذكرة الفائزة، انقطعت الأضواء و عمّ الظلام برهة اختلج فيها الحاضرون، و لم يلبث حتى حاصر العسكر المكان. اعتلى الوزير الركح كي يكبح الاضطراب  و أعلن عن الرقم الفائز. انفضّ الجمع قبل مراسم التصوير. و لم يقفوا صفوفا ، متدافعين حول الزربية الحمراء التي تؤدّي إلى الليموزين كي لا يشاهدوا معبودتهم و هي تقاد إلى المذبح.

أثّر ما حدث فيها فسال مكياجها على خدّيها و تشوّش شعرها. لمّا وصلت إلى النّزل، طلبت منه فترة راحة. تأخذ فيها دشّا و تعدّ تبرّجها.


في الأثناء كما أوصاه الوزير لا أكل و لا شرب و لا أي شيء، الدخول مباشرة في الموضوع. استلقى على السرير. أخذ آلة التحكّم و شغّل التلفاز. فتح التلفزة على القناة السلطانية. كانت تعرض برنامجا مطوّلا يحكي إنجازات جلالته منذ جلوسه على العرش حتى الآن. شعر بالملل جرّاء المبالغات التي تتجاوز الخيال فغلبه النعاس.

لم يفق من غفوته إلا بعد الزوال. انسحب بكل هدوء على أمل الفوز في المرة القادمة، وهو  يلعن في سرّه العجلة و الشهوة  و الغفلة. 


نظّم له وزيره الوفيّ حفلة لم يحضرها غير حرّاسه و جنوده. وُزّعت فيها تذاكر تحمل كلّها نفس الرقم. و عند الإعلان عن الفائز بلع كل واحد لسانه و صفّق للفائز الواحد الأوحد.


شقّت الليموزين شوارع العاصمة المظلمة تحت   الفوانيس المكسّرة. حملهما المصعد إلى الجناح. دخلا على أضواء الشموع.  تصرّف  كما أوصاه معالي الوزير لا بخور و لا أكل و لا شرب و لا تلفزة كي ينجح في الوصول الى مبتغاه. 

دفعها على السرير و شرع في خلع ملابسها بكل وحشيّة. نفخت على الشمعة فانطفأت. لم يتوقّف واصل العبث بها. انزلقت من تحته بصعوبة و ألقت بنفسها على الارض ارتمى عليها و واصل اغتصابها. لما قضى وطره منها اشتعلت الشمعة و ظهرت الملكة تحته بكل كبريائها. ارتعد، لكنّها لم تمهله شرعت في خنقه بكل قواها حتى ارتخى و همدت حركته. ألقت به و قامت فظهر خيال جسدها الفارع الذي لم تؤثّر في جاذبيّته السنين يعكسه ضوء الشمعة على الجدار  و قد بلغ رأسها السقف. و في لمح البصر انقضّ  خيال على خيالها و غرس في ظهره مشملا إلى المقبض. تهاوى الخيالان و تكدّسا على بعضهما.


  كأنّ طيفا ذو  أنف معقّف يخرج من تحت الستارة يمسك بغليون   حوّله إلى مسدّس صامت أطلق منه على الخيالين الهامدين الذين ارتجفا ثم سكنا.

  نفث خيال ذو الأنف المعقّف  دخانا متلبدا وهو   ينظر إلى الجثتين بكل هدوء اقترب منه خيال القينة.   تخاصر الخيالان  يدا فوق يدا تحت و توجّها ملتصقين إلى الباب فألفيا  عنده سيّدهما. قطع السياف رأسيهما بضربة واحدة ثم بدّل زيّه بزيّ الملك. تخصّر بالمشمل الملكيّ و غادر دون أن يلفت الأنظار.


[جمال الطرودي/تونس]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق