عبير اللقاء في قلب برلين – بين النص وكاتبته
بعد نشر النصين السابقين، وجدت نفسي في مواجهة غير متوقعة مع شخصياتي. انتفضت نور وزملاؤها ضد السرد، رفضوا التزيين، وطالبوني بأن أكتب الحقيقة كما هي، بلا تجميل أو زيف. هل يملك الكاتب حرية تشكيل الواقع كما يريد، أم أن الشخصيات تفرض صوتها على القلم؟
في هذا النص، أترك المساحة لهم ليتحدثوا، ليعيدوا رسم الحكاية كما يرونها. فهل الأدب قادر على نقل الواقع كما هو، أم أن كل نص يحمل بصمة خيال كاتبه؟
— نور تحتج!
“مهلًا، مهلًا! من سمح لكِ بأن تجمّلي واقعنا بهذه الطريقة؟”
انبعث صوت نور من بين السطور، قاطعًا تدفق السرد. تراجعت الكلمات للحظة، ترددت علامات الترقيم في أماكنها، بينما أخذت الشخصيات الأخرى تلتفت نحو الكاتبة بدهشة.
“عن أي حب تتحدثين؟ عن أي احتفال؟ نحن لا نحتفل بعيد الحب، بل نبيعه!”
يوسف يضع سكين التقطيع، ينظر حوله ثم يضيف:
“نبيع الورود، الشوكولاتة، ونوزع الابتسامات… لا لننغمس في الرومانسية، بل لنعيش! نعود بأجساد مرهقة، ننام قليلًا، لنواجه غدًا جديدًا.”
— الكاتبة تدافع عن نصها
“لكن ألا يعني هذا أنكم تحتفلون بطريقتكم الخاصة؟ أنتم تصنعون لحظاتكم الدافئة رغم كل شيء!”
تتدخل مريم وهي تمسح يديها من بقايا العجين:
“نحن نصنع الدفء كي لا ننهار، لا لنثبت أننا سعداء. لا تخلقي من تعبنا قصة حالمة.”
“ولكن… أنا أكتب عنكم، عن تفاصيلكم الجميلة.”
عزيز يضحك ساخرًا:
“هل التفاصيل الجميلة تعني أن تتجاهلي تعبنا؟ أن تجعلي من عملنا احتفالًا؟”
نور تقاطع من جديد، نبرتها لا تزال محتجة:
“لا حاجة لنا بسرد مزيّف. إن كنتِ تكتبين عنّا، فاكتبي الحقيقة كما هي: نعيش بين المحاضرات والعمل، نحمل حقائب مثقلة بالأحلام والتعب. نبيع الحب للآخرين كي نؤمن قوت يومنا. نضحك، نعم، لكن الضحكة ليست دليلًا على الرفاهية، بل هي استراحة محارب.”
— النص يتغير…
تراجعت الكاتبة خطوة للخلف، تأملت شخصياتها التي انتفضت ضدها، ثم أغلقت دفاترها للحظة. سمحت للنص أن يتنفس من جديد، أن يستوعب الحقيقة كما هي.
في قلب برلين، حيث تتراقص الأضواء الحمراء في واجهات المحلات، كانت نور وزملاؤها يسابقون الزمن. في النهار، يتنقلون بين قاعات المحاضرات والمكتبات، وفي المساء، يوزعون ابتسامات مرهقة للزبائن، يعيدون ترتيب الزهور في المحلات، ويعدّون الطلبات في المطاعم.
عندما يلتقون في نهاية اليوم، ليس احتفالًا بعيد الحب، بل احتفالًا بالصمود. يجتمعون حول مائدة متواضعة، يتقاسمون قصصهم، يضحكون رغم التعب، ويتحدثون عن الوطن البعيد كأنه حلم مؤجل.
آدم، الذي غادر منذ أيام، لا يزال حاضرًا بينهم، في الأحاديث، في الذكريات، في الدعابات التي يستعيدونها عنه. الحب هنا ليس مناسبات وزهورًا، بل هو رابطة خفية تشدّهم لبعضهم البعض، تجعلهم يستمرون رغم التعب، رغم الحنين.
في برلين، حيث يبيعون الحب للآخرين، يحتفظون لأنفسهم بفتات دفء، يكفي فقط ليبقيهم واقفين على أقدامهم، بانتظار غدٍ جديد.
——
هل تنتصر الحقيقة دائما في الأدب ، أم أن للخيال سلطة لا يمكن تجاهلها؟
راضية بصيلة

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق