قراءة فنية-متعجلة-في قصيدة الشاعرة الفلسطينية المغتربة أ-عزيزة بشير
(تجليات الصدق والتشكيل الفني)
"في ذِمّةِ اللهِ أختي الحبيبةِ الحاجّة ( أم رامي)ظُهرَ الجُمعةِ وفي رَمضان!"
سكتَ الكلامُ وفاضتِ الأقلامُ
والرّوحُ طارتْ للجِنانِ………مَرامُ
والرّوحُ عادتْ للإلهِ …....بِلَهفَةٍ
كلٌّ يُصلّي والجَميعُ ………….ِصيامُ
فاليومُ (جُمعةُ)والصّيامُ بِشَهْرِهِ
والموْتُ يحْلو ……فالجِنانُ مُقامُ
فلْتهنَئي أختاهُ عُدْتِ لِجَمعَةٍ
زَوْجٍ وأُمٍّ …..،…….. للجميعِ سلامُ
وتَرَكْتِنا ، كلٌّ يُكابِدُ غُصّةً
والقلبُ يُحْرَقُُ،……والوِئامُ خِصامُ
يا (أُمَّ رامي) فالبَنونَ حبيبتي
كلٌّ أتَوْكِ بِبِرِّهِمْ …………يَتَساموا
وأنا (عزيزةُ) مَعْ بنِيَّ وَعِزْوَتي
نُهديكِ (ياسيناً) إليكِ ………وِئامُ
رَحَماتُ ربّي قد أتَتْكِ (بِجُمعَةٍ)
وَبِجَمعَةِ الأحبابِ …….كانَ حِمامُ
ماذا أقولُ أُخيّتي وحبيبتي؟
نَفذَ القضاءُ ………وغابتِ الأحلامُ
والقلبُ يخفُقُ والدّموعُ غزيرةٌ
هلْ ذا حقيقةُ أم تُرى… …أوْهام ُ؟
مَنْذا يشُدُّنِي مِنْ نَوايَ. …بِغُربَةٍ
يا توْأماً للرّوحِ………… كيفَ أُلامُ ؟
آلُ البشيرِ مَعَ الشّواهنِ كلِّهمْ
ينْعونَ أفضلَ مَنْ خُلِقْنَ……، كِرامُ!
عزيزة بشير
مقدمة :
عودنا الشعر العربي منذ قرون طويلة على كتابة قصائد المراثي ، الامر الذي تمكنت قصائد الرثاء بشتى انواعها من تخليد شخصيات مختلفة جراء تلك المراثي التي بقيت في ذهن الانسان العربي من المحيط الى الخليج ، ولعل قصائد الخنساء في رثاء اخويها صخر ومعاوية قبل اكثر من اربعة عشر قرناً مازالت خالدة في الاذهان،ناهيك عن فعل وديمومة الشعر في الرثاء الذي يجسد حالات هي غالباً ما تصلح للكثير من الازمان والاوقات،ان ترثي الخنساء صخر فهذا نابع من حرقة قلب اخت لاخيها،أو ان يرثي شاعر حديث مثل البياتي صديقه الشاعر بلند الحيدري فهذا ايضاً بالامر الطبيعي بالنسبة للشعرية العربية وبمختلف مدارسها واتجاهاتها الشعرية،وكذلك ينطبق الحال على الشعر الفرنسي والانكليزي والامريكي والروسي،فلطالما قرأنا الكثير من المراثي التي لا تختلف كثيراً عن مراثينا في الشعرية العربية والتي تبدو للدارس انها تمتاز بطابع الرثاء اكثر من غيرها من المدارس الاوروبية،ولهذا فالرثاء داخل الجسد الشعري يشكل حلقة مهمة من الهيمنة النوعية للتفرد بأحاسيس ووجدان الانسان المتلقي الذي بالتأكيد قد عاش مأساة فقدان عزيز ما،الامر الذي سيعيد في ذلك ذكريات وجراحات قديمة وعميقة لم تتمكن سنوات الماضي من نسيانها مهما طال الزمن .
إن مهمة الشاعر الذي يكتب في هذا الغرض (الرثاء) اليوم كما في غيره من الأغراض صعبةً بالنظر إلى حجم المدوّنة الشعرية العربية،ممّا يجعل الشاعر مطالبا بتحقيق الإضافة
والاختلاف،خاصّة ونحن في زمن الحداثة الشعريّة ومتطلباتها.
كتبت الشاعرة الفلسطينية المغتربة الأستاذة عزيزة بشير مرثية فأبدعت،وتجلت لنا من خلالها الفجائعية ودهشة الفقد غير المتوقعة،وليست هذه المرثية إلا بكائية ولدت من هول الحدث وشدة الخطب،وما موت إنسان عزيز إلا فاجعة،فكانت هذه المرثية تخليداً للراحلة شقيقتها..الحاجة ( أم رامي)
والوجود لا يخلو من المنغصات التي تثير الحزن والألم في نفوس الشعراء،فتنطلق كلماتهم معبرة عما تجيش به صدورهم من لواعج الألم وطوافح الحزن.
وهذه المرثية التي رثت بها الشاعرة الأستاذة عزيزة بشير: أختها وصديقة عمرها من المراثي التي تستجيش العاطفة،ويستدر عند قراءتها الدموع فهي قصيدة تذوب رقة وحزناً ولوعة ووجداً.
فكانت الثيمة الشعرية التي استندت عليها الشاعرة في هذه المرثية هي عبارة عن سلسلة من الآهات والجراحات المتواصلة، والفجائعية الممزوجة بالأسى والحسرة والتألم.
لقد شدت المأساة مشاعر الشاعرة واعتصر الألم قلبها إلا أن إيمانها بقضاء الله وقدره لا زال حياً في نفسها فكانت زفراتها تنطلق تهليلاً لعظمة الله وشأنه في خلقه،فعند الإيمان بهيمنة الموت وحتمية وقوعه فلابد من الإحساس بأنه قضاء من الله وقدر مكتوب لا محيص عنه ولا انفلات منه،والشاعرة هنا بحكم انتمائها وتكوينها تؤمن بذلك،وتعلم أنه من لوازم الإيمان بالقضاء والقدر،الذي هو أحد أركان الإيمان،فلابد من التسليم لله بذلك:
سكتَ الكلامُ وفاضتِ الأقلامُ
والرّوحُ طارتْ للجِنانِ………مَرامُ
والرّوحُ عادتْ للإلهِ …....بِلَهفَةٍ
كلٌّ يُصلّي والحميعُ ………..ِصيامُ
فاليومُ (جُمعةُ)والصّيامُ بِشَهْرِهِ
والموْتُ يحْلو ……فالجِنانُ مُقامُ
وإذا ما سلطنا الضوء على قصيدة الشاعرة الطافحة-بالدمع المكتوم-وجدناها تعمد إلى تصوير الصدمة تصويراً يثير الحزن والأسى في القلوب،ونحن نجد في هذا الشعر قوة التعبير،وتماسك العاطفة،وصدق التجربة،والتفاعل الحي مع معطيات الأحداث ومواصفات الواقع الذي أثقل كاهل الشاعرة.
لقد حرصت الشاعرة ( الأستاذة عزيزة بشير ) على استخدام وسائل مختلفة للتأثير في المتلقي،وذلك لأن شعورها بفداحة المأساة جعلتها لا تطيق حملها وحدها فأرادت أن تشرك معها المتلقي،ولذلك لجأت إلى مخاطبة العقول ومخاطبة الوجدان باستخدام مؤثرات فنية مختلفة،وأما مخاطبتها للعقل فتتجلى في استفتاح قصيدتها بالحكمة،أما مخاطبتها للعاطفة فتبرز من خلال محاولتها إثارة حزن المتلقي على ما أصابها من فاجعة الفقد.
إن الشاعرة لم تكن بحاجة إلى المبالغة باستخدام محسنات بيانية إضافية لتوضيح الصورة،لأن الصورة في حد ذاتها تمثل المأساة في أدق تصويرها وأوضحها،لذلك اكتفت باستخدام شكل بسيط وقليل من المحسنات البيانية وبعض الاستعارات..
وللتكرار وظيفة مهمة في القصيدة إذ يعمل التكرار على الإيقاع الحزين المنسجم مع أجواء القصيدة وموضوعها،وذلك عندما كررت مفردة " جمعة" أربع مرات،لتخفف من ألمها ووجعها عند ذكر وتذكر شقيقتها الراحلة ( أم رامي) بما يوحي بأن الحياة بأيامها ولياليها مكمن كل حزن وألم.
لقد ابتعدت الشاعرة عن الرتابة،لذا سارت عاطفتها بين ثنايا القصيد هبوطاً وارتفاعاً،وهذه عاطفة شاعرة منكوبة في أقرب الناس إليها وأحبهم إلى قلبها-المعطوب أصلا-ومن الطبيعي أن تنخفض وتيرة عاطفتها وترتفع تبعاً لزفرات قلبها الحزين وفؤادها المفجوع،وكأننا نصغي إلى موسيقى الروح وأنينها لا إلى موسيقى القصيدة.
وقد أحسنت الشاعرة في التنويع بين الأساليب الخبرية والإنشائية،ووظفتها توظيفاً رائعاً بحيث يشعر القارئ بأنه يقرأ قصة تتجدد بتجدد أحداثها،فيندمج فيها بكل أحاسيسه ومشاعره.
ومما لاشك فيه أن الراحلة لها مكانة كبرى في قلب الشاعرة لذلك نعتتها بـ "توأم الروح" وقد عكست هذه المفردة قوة ارتباط الشاعرة بالفقيدة في الحياة وبعد الموت على السواء،وأنها ساكنة في قلبها وخيالها وعقلها.
قصيدة في شكل لوحة فنية رسمتها أنامل شاعرة تفيض عاطفتها وتقطر شجناً وألماً وحزناً من خلال المفردات التي اكتظت في النص الأدبي،والتي تضمنت معاني الحزن والمرارة والحديث عن الألم الذي يكمن في صدر الشاعرة.
ختاما أقول : إن المحبة الخالصة للآخرين لشيء عظيم و"عزيزة" هي أستاذة الأدب..وأستاذة المحبة،فقد أتقنت بمهارة وأجادت في حبها بنقاء قلبها،وصفاء وخفة روحها،لترسم البسمة على شفاه من حولها،فهي الباسمة دوما رغم المحن و الشدائد،وقد سارت في الحياة سيرة المؤمنين الصادقين في إيمانهم،فلم تكن يوما متجهمة مستاءة غير راضية بما كتب الله لها،ولم يظهر الحزن على وجهها،ولم تكن ساخطة يائسة،وقد زهدت فيما تبدع عن الشهرة الزائفة،ولذا ينطبق عليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "كن في الدنيا كغريب أو عابر سبيل"
صبرا جميلا..يا عزيزنا..عزيزة.
محمد المحسن

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق