تغيّرتَ مستعجلا..أيها الفرح الضجري..وتركتَ سطح قلبي معبرا للمواجع.!!
..عليَّ أن أعود إلى خالقي،وأعيد إليه ما تبقى من لحمي وحلمي ودمي،فأنا لست أنا كما كان يعرفني قومي وعسس الليل وكل الذين تعفّروا بالهدم والرّدم وتشظوا في الرّعد دمدمة ودويا..
لم أعد أمير المنابر يا رفاقي.ومثلما أوحيت لكم ذات يوم: أنا ذاهب في صحاري دمي..
أنا ذاهب في زهدي ..وقد لا نلتقي..
سأحاول أن أنبجس من ذاتي إلى ذاتي،وأدوّن معاناة بني البشر أجمعين،وما ذررفوه من دموع في نهر الأبدية..
سأكتب على سديم الدنيا تواريخ رجال أتقياء ما هادنوا الدّهر يوما..
رجال تشرق مكارمهم وتتجلى ورعا و وإيمانا..
من المؤكّد أنّ والدي منهم..والدي الذي خاض تجربة الحياة بمهارة..ظلاله مازالت ممتدة من الجغرافيا إلى ارتعاشات القلب..مازالت هنا على عتبات الرّوح مثل رفّ جناح..
وها أنا..مازلت ألتحف وصاياه بنبل وإخلاص،وأسعى وفقا لوصاياه أن أكون صادقا مع نفسي أوّلا ومع الآخرين تاليا،لا أسطو على أحد ولا أتدثّر بلحاف غير لحافي،كما لا أمدّ رٍجلي إلا على قدر كسائي،وها أنّي اليوم أراه (والدي رحمه الله) ملتحفا بالغياب يتراءى وبإلكاد يرى لا سيما في الأيّام الشتائية الماطرة حين السحب تترجّل على الأرض ضبابا،كثيرا ما كنت أراه..
قد يكون الأمر مجرّد أوهام بائسة ورؤى منهكة يكتنزها اللاشعور لكنها تنفلت أحيانا من رقابته،كي تتحوّل إلى نداء خفوت يمجّد الحقّ ويناصر العدل..
لكنّي أرى فيما أرى أيضا أقلاما هشّة تتدحرج صوب الرداءة والكسب الرخيص..لتزيدني الرؤية يقينا بأنّ الأقلام رماح ما لم تصنها ارتدّت إلى خاصرتك وجعا وصرير أسنان..
لم أعرف اليتم يوم غاص أبي الرحيم إلى التراب..
واليوم تشهد كائناتي وأشيائي أنّي اليتيم..شيخ تجاوز الستين بخمس عجاف..
ولكنّي أحتاج أمّي بكل ما في النّفس من شجن وحيرة وغضب عاصف..
أحتاجها لألعن في حضرة عينيها المفعمتين بالآسى غلمانا أكلوا من جرابي وشربوا من كأسي واستظلّوا بظلّي عند لفح الهجير..لم أبخل عليهم بشيء وعلّمتهم الرماية والغواية والشدو البهي..
واليوم تحلّقوا في كل بؤرة وحضيض لينهشوا لحمي وحروف إسمي..
أين منّي حضنها الدافئ وهي تهدهدني كلما صهل الخراب في داخلي..؟
خساراتي فادحة أيّها الزمن اللعين..خساراتي مؤلمة أيتها الدنيا اللئيمة..فقدت أبي ذات مساء قاتم..توارت أمّي خلف الغيوم..واختفت تلك التي آتتني من غربة الصحو،ألبستني وجعي ثم تلاشت في ازدحام الصباح..ثم خطف الموت اللئيم مهجة روحي "غسان.."
خساراتي فادحة أيتها الدنيا المزدحمة بالأحزان،أما أرباحي فسقط متاع،أضعت في الطريق رفاقا كثرا أسقطتهم القافلة سهوا عني..سهوا عنهم..ما أطول طابور خساراتي وما أحلك هذا الليل الذي صار جزءا منّي.هل أنا حي لأموت..؟
وهل من فقدتهم -الأحياء والأموات-ليسوا جزءا منّي..؟! ألم يقتطع منّي الموت أشجارا شاهقة ونفوسا عظيمة؟..فكيف لم يزرني هذا المتسربل بالعدمية إلى حد الآن..بل إلى حد هذا الحزن والألم والجنون..؟
ألا بد من إنقطاعي عن توريد السجائر إلى رئتيّ المذهولتين ليتمّ إعلان موتي..؟
ألا بد من تخريب جسدي عمدا بما أسكبه في جوفي من "نبيذ"..؟
وهل عليّ تغيير لحاف كوابيسي بكفن أكثر بياضا من العدم،لكي يصعق الأصدقاء ويرقص الأعداء ويوقنوا أنني جثّة تتدحرج على هضاب الحياة وتصطدم بالحواجز والأضداد..؟ !
ميّت أنا..ومشتاق إلى الحياة..يا أيّها الموتى بلا موت.. تعبت من الحياة بلا حياة..مشتاق إلى القصيدة..لم تزرني منذ ليال طويلة..هجرتني كما هجرتني تلك التي تهجع خلف الشغاف بعد أن أيقنت أنّي سقط متاع..
حاولتْ-بجدائلها-رتق الفتق..فتغلّب الفتق على الرتق..تركتني أخيرا كائنا أسطوريا يسكن الرّيح،ويعوي مع ذئاب الفيافي..قمرا في بلاد ليس فيها ليال مقمرة ولا أصدقاء..
ومع ذلك مازلت أحبّها..مازلت أهذي من حنين وحمّى..
انتصف الليل ولم يأتني طيفها ولعلّ هذا نذير شؤم..أو مؤشّر موجع للفراق العظيم..
من تشتريني في مثل زمن مزخرف بالليل كهذا..فالقلب توقّف في الحزن كالحجر الأردوازي..والجسد غدا في غاية الإعتلال..أما الشوارع فقد أوحشتني مما بها من لحى..وبين الضلوع تأجّج ما تبقى من الشيب برق..وعبث فيما تبقى من القلب رعد..وكفّت الخمرة عن فعلها فيّ مما تداويت..
"سأبقي المصابيح موقدة في فيض الصباح..مصالحة بين صحو الصباح وصحوي..وأبقي رياح الجنوب بوصلتي و دليلي..وأسأل عن إبن صاحب الرّوح في زمن الجدب..يوم كانت المحيطات تنام بحضني..وما زال ثوبي يخضرّ من مائها..ياله من زمان مضى بين ألف من السنوات الفتيّة..
تغيّرت مستعجلا أيها الفرح الضجري..وأصبح سطح قلبي معبرا للمواجع..
ولكن متى كان الحزن يصغي..؟!
محمد المحسن

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق