مريـم والبحر: حكاية عناق أبدي
توفيق حيوني
قليبية 30 جوان 2025
كان البحر، في ذلك اليوم المشؤوم، يتهيأ لوليمة. لا وليمة سحور تُقام على رماله الذهبية، ولا احتفال بهيج ترقص فيه الأمواج على أنغام الريح، بل وليمة صامتة، مؤلمة، تتزين بابتسامة طفلة. مريم، ذات السنوات الثلاث، فراشة صغيرة حلّقت إلى الشاطئ لتتلقفها أياديه المتلاطمة.
كانت تطفو على طوّافة بحرية، يدها الصغيرة تلوّح ببهجة لوالديها على الشاطئ، اللذين كانا يرقبانها بقلبين يملؤهما الحب والأمل. فجأة، وبلا سابق إنذار، جاءت موجة عاتية. لم تكن مجرد موجة، بل كانت ذراع البحر العملاقة، التفت حول الطوافة، سحبتها بعنف، وانتشلت مريم من حضن والديها، من عالمها الصغير الآمن.
صرخة مكتومة، ثم صمت. ابتلع البحر الصرخة، وابتلع معها كل ما في قلب الأم من صراخ ورجاء. ركض الأبوان نحو الأمواج الهائجة، كالمجانين، يصرخان اسم مريم، يتوسلان إلى البحر أن يعيد لهما طفلتهما. لكن البحر كان قد بدأ وليمة صامتة، وليمة لا يُرد منها شيء.
داخل أعماقه، كانت مريم تفتح عينيها. لم يكن الظلام مخيفاً، بل كان نوراً أزرقاً يغمرها. سمعت همسات، كأنها أغنية بحرية قديمة، تناديها. "تعالي يا مريم، تعالي إلى مملكتي الأبدية." كان صوت البحر، عميقاً، هادئاً، يلفّها بالدفء.
"أمي ....أبي؟" همست مريم، بينما كانت فقاعات الهواء تتصاعد من فمها، كأنها كلمات تائهة.
"أبوك وأمك هناك، في العالم الذي لم يعد يستحق نقاءكِ،" أجاب البحر، وصوته يتردد في أعماقه. "عالم الظلم والطغيان، عالم الزيف والغدر. عالم حيث البشر يقتلون بعضهم بعضاً باسم الحب، ويخونون بعضهم باسم الوفاء. عالم لا مكان فيه لروح نقية كروحكِ."
كانت مريم ترى صوراً. ترى أمها تصرخ باسمها، يداها ترتجفان وهي تبحث عنها في كل مكان. ترى والدها يركع على رمال الشاطئ، رأسه بين يديه، دموعه تمتزج بملوحة البحر. ولكنها أيضاً رأت صوراً أخرى. صوراً لأطفال جائعين، لبيوت مهدّمة، لأبرياء تُراق دماؤهم بلا ذنب.
"هنا، يا صغيرتي، ليس هناك ظلم ولا طغيان،" تابع البحر حديثه، بينما كانت أسماكه المضيئة ترقص حولها، كأنها تحيّيها. "هنا، لا وجود للغدر ولا الزيف. هنا، الحب هو القانون الوحيد، والصدق هو العملة المتداولة، والعدل هو حكمي الأبدي."
مدّ البحر أذرعه، واحتضن مريم بلطف. شعرت وكأن جسدها يتلاشى، يتحول إلى جزء من الماء، جزء من البحر نفسه. اختلطت روحها الطاهرة بملوحة الأمواج، وبعمق القاع. لم يعد هناك ألم، لم يعد هناك خوف. فقط سلام، وسكون أبدي.
"إلى اللقاء يا أمي، يا أبي،" همست مريم، كلماتها الأخيرة تذوب في لجة البحر. "سأرحل إلى عالم حيث الحب يشرق كالشمس، والصدق يتدفق كالأنهار، والعدل يتربع على العرش. عالم لم يعد فيه مكان لدموعكم."
لم تكن مريم قد غرقت، بل كانت قد تحولت. تحولت إلى نجمة بحرية تتلألأ في الأعماق، إلى لؤلؤة تتوهج بنور الطفولة البريئة. تحولت إلى جزء من أسطورة، تحكيها الأمواج على الشواطئ، تتناقلها الرياح بين الجبال، تهمس بها في آذان العشاق، عن طفلة اختارها البحر لتكون ملكة مملكته السرية، بعيداً عن قسوة عالم البشر.
على الشاطئ، بقيت الأم والأب يصرخان، عيناهما مثقوبتان بالدموع، وقلوبهما محطمة. لكن البحر، في أعماقه، كان يضم مريم إلى صدره، يعدها بالخلود، وبحياة أبدية من النقاء والجمال. حياة لا تعرف الظلم، ولا تتذوق مرارة الخداع، حياة حيث العدل والحب هما السادة الأبديون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق