آخر المنشورات

السبت، 9 أغسطس 2025

مثيرات اللذة الجمالية..في شعرية الشاعر التونسي القدير جلال باباي بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 مثيرات اللذة الجمالية..في شعرية الشاعر التونسي القدير جلال باباي


إلى

التي نثرت الفتنة-كالبذور-

كي تدلّ القلب إلى مأواه..

" من الذي سوف يمتدحك

مديحاً لم يحدث من قبل"

زرادشت

(القرن الرابع قبل الميلاد)


نعني باللغة الشعرية ما تعارف عليه النقاد من استخدام الشاعر لمكونات القصيدة اللفظية ذات التداعيات والدلالات الإيحائية،وهو ما اتفقوا عليه بالمدلولات الانفعالية للكلمةج،ولا يعنينا في هذا المقام ما قال به بعض النقاد من مفهوم للغة الشعرية بأنها الإطار العام الشعري للقصيدة،والتي يقصد بها مكونات العمل الشعري من ألفاظ وصور وخيال وعاطفة وموسيقا ومواقف بشرية .

وعليه،فقد تميزت لغة شاعرنا التونسي الفذ جلال باباي بالشفافية والوضوح،فهي بعيدة عن لغة التعتيم والتهويم في سرف الوهم واللاوعي،تلك اللغة التي تلفها الضبابية القائمة والرمزية المبهمة، فلغته ناصعة واضحة لا غموض فيها،وتعبر عن مضامينه بأسلوب أقرب فيه إلى التصريح المليح منه إلى التلميح..

وهذا يعني أن الشاعر-جلال باباي ذو مهج تعبيري سلس،وقاموسه الشعري لا يحتاج إلى كد ذهني وبحث في تقاعير اللغة،وأنا إذ أصرح بهذا إنما أغبط شاعرنا على الرؤى الواضحة والألفاظ المعبرة بذاتها،وقد لمح الشاعر نفسه عن ميله لهذه السهولة بقوله :

الجميلة

شفيفُة  مثل الشمس هذه الجميلة

تستعير من قفص مظلتها عطر وردة ذابلة

ذا خَفيفُ المزاج يجادل ماضيه

به رغبةٍ في الرحيل

كان الوقتَ يومها ساخنا وخجولا

أمٌا الجميلة فتوزع على نهديها ماء ورملا

تتزيٌن تحت شمسيتها غير آبهة باللصوص

يسترقون النظرات  من فوق أسرٌة الشاطئ

سوف تجيء  الطيور المهاجرة مع حلول الخريف

تنتفض الجميلة من مكانها بعد ظهيرة أغسطس

يبقى العشاق فرادى  يلفهم الغبار .

جلال باباي (ذات إشراقة صبح بمدينة أكودة الساحلية)

تعد الشعرية قيمة جمالية متغيرة بإيحاءاتها وتشكيلاتها النصية،والقارئ الجمالي هو الذي يباغت المتلقي بأسلوبه الشعري،من خلال التشكيلات النصية المراوغة،وحراك الدلالات الشعرية التي تباغت المتلقي بأسلوبها التشكيلي الانزياحي الخلاق بمؤثرات الدلالة ومثيراتها النصية،وهذا يعني إن أي ارتقاء جمالي في قصيدة من القصائد يظهر من خلال بناها النصية المفتوحة ورؤاها العميقة.

إن اللعبة الجمالية في جل قصائد جلال باباي ( أزعم أني اطلعت على جلها) فاعلة في استثارة الدلالات والمعاني الشعرية،وهذا يدلنا على أن الشعرية كتلة متحولات جمالية في قصائد جلال التي تتنوع دلالاتها ورؤاها النصية تبعاً لمتحولاتها النصية الآسرة وبلاغة مردودها الجمالي على المستوى الشعوري والموقف العاطفي المجسد.

وبتصورنا:إن الفكر النقدي الإبداعي يقف على المثيرات النصية المؤثرة التي تجعل القارئ يتلذذ بمتعة المكاشفة والاكتشاف الجمالي،فالقارئ الجمالي هو الذي يكتشف ما خفي من النص، ويكتشف الرؤى البؤرية العميقة التي ينطوي عليها،ومن هنا فمن يبحث في مثيرات الشعرية ومتحولاتها النصية في قصيدة من القصائد عليه أن يقف على المتغيرات الجمالية التي تنطوي عليها القصيدة في تجلياتها النصية الشعرية المفتوحة برؤاها ودلالاتها النصية.

في هذا السياق،تتجلى ‬جمالية‭ ‬جلال باباي ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬ومؤولاتها‭ ‬الثرية التي‭ ‬تجعل‭ ‬القارئ‭ ‬يسبح‭ ‬في‭ ‬فضاءاتها‭ ‬مزهواً‭ ‬بدهشتها‭ ‬الإسنادية، وبكارة‭ ‬ما‭ ‬تبثه‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الفني‭ ‬والجمالي.وتلك‭ ‬هي‭ ‬ميزة‭ ‬النصوص‭ ‬الشعرية،المنفتحة‭ ‬على‭ ‬احتمالات‭ ‬التأويل‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬استنفادها‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬واحدة‭ .‬

ومن هنا،سنظل نهوّم مع شاعرنا-جلال-يحدونا بأغنياته،فيشنف آذاننا وترقص معه أفئدتنا طربا وثورة..طربا لما في هذه القصائد من ومضات مشرقة تأسر القلوب في أفكارها وصورها ولغتها، وثورة لأنه يفجر في دواخلنا كوامن الجراح التي ما تلبث أن تلتئم حتى تتفتق من جديد..

ودائماً سيبقى من يحفظ للشعر حقّهُ.وبما أنّ الشّعر كائن حيّ،فهو يحتاجُ لمزيدٍ من الاهتمام،ومزيدٍ من الإنفتاح به على الجهات،وكسر للقوالب التي تخنقه،ليفرد جناحيه محلقاً متنفّساً ما يشتهي..هكذا نضمن لهُ حقّهُ في الحرية.

دمت يا جلال سامقا..لامع الحرف وذائقا لمعانيه العميقة..


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق