** بودعدوشة **
تراه يتهادى في شاحنته السّحريّة قاصدا السّوق الأسبوعيّة و هو يمنّي النّفس بالدّراهم الّتي ستنهال عليه من أكفّ الحرفاء.. يتّخذ مجلسه في مكان بائن يكثر فيه المارّة.. يرتدي ميكروفونه العجيب و يثبته على صدره قريبا من فمه فكأنّه جزء من ثيابه بل كأنّه جزء من جسمه.. يلتفّ حوله النّاس بجميع فئاتهم.. و يعرض بضاعته في صناديق واهية معرّضة للإتلاف في أيّ لحظة..
يشرع في عرض الصّحون و الكؤوس الّتي لا تقبل أثمانها المنافسة أبدا و لو جبت البلاد طولا و عرضا بل حتّى لو ذهبت إلى الهند و السّند.. و يبدأ العرض في حماس محموم.. هاهو يقترح مجموعة من الصّحون الزّجاجيّة الّتي لا تقبل الكسر مهما حاول تحطيمها على باب الشّاحنة.. هاهو صوته يتعالى في السّوق على طبقة صوتيّة واحدة و بنبرة موحّدة يكثر فيها اللّهاث و الشّهيق و الزّفير.. و أهمّ ما في العرض ذلك الصّوت الأجشّ الّذي يمتزج بخشخشة الميكروفون الّذي أكل عليه الدّهر و شرب فلا تكاد تفقه شيئا ممّا يقول.. ولكنّك إذا قمت بميكساج للصّوت و الصّورة يمكنك أن تفهم لبّ الموضوع.. يحصي الصّحون بطريقة طريفة معدّدا الأكلات الشّعبيّة الّتي يمكن أن تكون إناء لها.. فهذا الصّحن للكمّونيّة و هذا للجلبانة و ذاك للملوخيّة و ذلك للمقرونة.. و يواصل على ذلك النّسق إلى أن يكمل اثني عشر صحنا بالتّمام و الكمال.. ثمّ يقترح ثمنا خياليّا و كأنّه في ما يشبه المزاد العلنيّ.. فيهرع إليه أحد الحرفاء متسلّما بشغف ذلك الكيس البلاستيكيّ الشّفّاف الّذي يضمّ الصّحون العجيبة و يسلّمه الدّراهم و قد يسلّمها لمساعده.. فيثني البائع على الحريف و قد يزوّده بدعاء مسجوع غير متوقّع.. و تتواصل الحكاية مرّات و مرّات.. فإذا كانت الصّفقة الموالية مع الكؤوس كان معها دورق بلّوريّ إضافيّ تزيّنه رسوم أو زهور تكون في العادة حمراء اللّون..
إنّه بودعدوشة.. و لا تسألني عن سبب تسميته بذلك الاسم الطّريف.. فإنّه يلذّ لي أن أستعمل تلك الأسماء الغريبة العجيبة الّتي يتحرّج البعض من استعمالها لغرابتها.. كان بودعدوشة و مازال رمزا من رموز الأسواق الأسبوعيّة.. ومازلت أتذكّر صوته السّحريّ في سنوات الطّفولة.. ومازلت أطرب لسماع صوته الّذي يحمل بصمة خاصّة رغم التّشويش الكبير في الأداء.. و مازال صوته يتناهى إلى المنازل فيستمع إليه الكبير و الصّغير في البيت.. فلا يملك إلاّ أن يبتسم دون سبب واضح.. كان بودعدوشة و مازال في نظري فنّانا مسرحيّا له حضور ركحيّ مميّز.. يحسن جلب انتباه الحرفاء بطريقته الغريبة في البيع و بامتداحه لبضاعته رغم عدم اقتناع بعض الميسورين بجودتها.. و لكنّهم يعترفون بوجاهة حضوره في كلّ سوق أسبوعيّة.. كنت أجوب السّوق في الأسبوع الفارط فجلب انتباهي صوته و عرضه المسرحيّ المجّانيّ.. فأخذت أتأمّل ذلك العرض بعيون طفوليّة برّاقة و في البال ذكريات مازالت منقوشة مثلما نقشت تلك الرّسوم الجميلة في تلك الصّحون و الكؤوس الّتي يبيعها بودعدوشة..
** محمّد الزّواري ـ تونس **

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق