آخر المنشورات

الأحد، 28 سبتمبر 2025

**قصة قصيرة.. (( سلّمُ الدَّمعِ)).. بقلم الكاتب (مصطفى الحاج حسين).

 **قصة قصيرة..

(( سلّمُ الدَّمعِ)).. 

 

(مصطفى الحاج حسين). 


في طريقه إلى السّوق الرّئيسي، كان (جدّي) يمرّ متّجهاً إلى المقهى الوحيد، في مدينة (الباب) الذي يكتظّ بأبناء البلد والغرباء، في مثل هذا الوقت.  

يلتقون هناك، يرتاحون، يشربون الشّاي، ويلعبون بورق الشّدّة، أو بطاولة الزّهر، أو بلعبة اسمها (الضّامّة).

 

وكان المقهى يتحوّل في المساء إلى حانة، يُقدَّم فيها العرق و(البيرة).. وسجائر الحشيش.  

وفيه (راديو) يصدح طوال اليوم بالأغاني ونشرات الأخبار.


كان جدّي في طريقه، ليجتمع بأصدقائه، وإذ به يلمح أبي، يعمل مع أبناء أخيه، وهو في حالةٍ مخيفة، وخطرة، ومؤلمة..  

تحرق الدّم والأعصاب!


إذ شاهد ابنه، بجسده الضّعيف البُنيَة، يترنّح تحت (حَجَرَةٍ) كبيرة الحجم.. ثقيلةٌ وسميكة، محمولةٌ على ظهره، وهو يصعد السّلّم، المصنوع من أعمدة الخشب، المُستعمَل للمرّة الألف!..  

وهو خشبٌ قديم، ومعوّج، منخور، غيرُ سليم ولا صالح.

 

فقد كان يُجهَّز على عجَل، في ورش العمارة، مُثبّتًا بمساميرَ صدئة، وبصفائحَ خشبيةٍ رقيقة، تُستعمل كدَرَجٍ للتسلّق، وهي ضعيفة، لا تحتملُ الوزنَ الثقيل.


وكان أبي، قد حاول الصّعود بمشقّة، وإذ بدرجة من درجات السّلّم، تنكسر قبل أن يتمكّن من إيصالها، ورفعها إلى نهاية السِّقالة، حيث يقف (أبو حسنين) في الأعلى، منتظرًا.


حين انكسرت الدّرجة، تهاوى أبي بقدمه نحو الأرض، لكنّ خوفه، وغلاوةَ الرّوح عنده، جعلاه يُمسك بيده السّلّم بقوّة، وصارت قدمه بالكادِ مستندةً على حافّةِ الدرجة المكسورة، ممّا ساعده على ألّا يسقط.

وفوقه الحجرة، التي كانت ستهرسه، وتقتله في الحال، فصاح بذعرٍ شديد، وخوف:


- يا (أبو حسنين)!..


انتبه الجميع إليه، وانبعثَت الأصوات من كلّ النواحي:


- يا لطيف، ألطف!..  

- يا ساتر، استر!..  

- يا رب!..  

- يا رحمن!..  

- يا الله!..


اندفعوا صوب أبي، يُسندونه، ويحمونه من السّقوط. 


وامتدّت أياديهم، لتمسك بأقدامه وساقيه، ومنهم من راح يسند الحجرة، وهو يقف على أطراف أصابعه.

 

ومن فوق السِّقالة، كان (أبو حسنين) يحاول جاهدًا أن يسحب الحجرة، دون جدوى.  

كان رفعها صعبًا، وكذلك إنزالها أصعب. 


وأبي المعلّق، لا يستطيع أن يرميها، وأصابع يده المتشبّثة بالسّلّم، تكاد أن تتقطّع، أو تفلت.. وفي حال انفلاتها، سيسقط، وتسقط فوقه الحجرة، وفوق من يقف تحت السّلّم!


وتجمّع النّاس، وتراكضوا، وتزاحموا، وتصايحوا.


و(جدّي) استمرّ على وقفته تلك، يقف بعيدًا بعض الشيء، يراقب، ويدسّ يديه في حزام (قمبازه) المقلَّم بدروبٍ بيضاء وسوداء، وقلبه في غاية الانقباض، والتّسارع في دقّاته. 


وكانت الدّموع في عينيه، على أهبّةِ الاستعداد للانهمار.


وجاء يركض (أبو حسن)، الكبير، شقيق (أبو حسنين) الصغير، وكان يصرخ بالعمّال، بعصبيّةٍ ونزق:


- هاتوا سلّماً آخر!.. أسرعوا!.. أسرعوا!..


وعلى الفور، هرع أحدهم، وأحضر سلّمًا ثانيًا، فأسنده (أبو حسن) على السِّقالة، وصعد يتسلّقه بعجلة، ومدّ يديه لترفعا الحجر عن أبي.  

واستطاع (أبو حسنين) أن يتناولها من أخيه.

 

ونزل أبي السّلّم، وارتمى على الأرض، يلتقط أنفاسه، و(جدّي) يراقب.. بحرقة، وألم، وجزع.


نزل (أبو حسن) من على السُّلَّم، وهو يتكلَّم بصوتٍ عالٍ، مخاطبًا أبي:


- ألا يوجد غيرك، يحمل مثل هذه الحجرة الضّخمة؟! هي بحجمك ثلاث مرّات!!..


ردَّ عليه أبي، حاقدًا وغاضبًا:


- قلتُ لأخيك (أبو حسنين) إنّني لا أستطيع حملها، لكنَّه انزعج منّي، وأجبرني على الصّعود بها!


ثم فجأة.. التفت أبي صوب الطّريق، فلمح والده واقفًا، يراقب ويستمع... لكنّ (جدّي) سرعان ما تحرّك، وتابع سيره.


وحين عاد جدّي إلى داره، من المقهى ليلاً، كان حزينًا وعابسًا.  قال (لجدّتي):


- اعتبارًا من هذا اليوم... أَطْبخي على مزاج وطلب ابنك (محمد).


ولمّا ارتسمت الدّهشة على وجهها، وسألته:


- عجيب!.. وغريب!.. كيف؟ ولم؟ وماذا حدث؟!.. لتتغيّر هكذا؟!


قال (جدّي)، بصوتٍ مخنوق، وكُلّه تأثّرٌ وألم:


- ابنكِ (محمد) يا (أمّ حسين)... تبيّن لي أنّه يتعب في شُغله، ويجب علينا أن نهتمّ به.


انبَعَثَتِ الفرحةُ العامرةُ في قلب أبي، حين علم من أمّه، أنّ جدّي قال بالأمس هذا الكلام...  

وكان هذا التنازل الأوّل من (جدّي) إلى (أبي)، في أبسطِ حقوقه.


فهرع سعيدًا إلى غُرفته، حيث ترك *أمّي* مشغولة بإرضاع أخي (سامي)، ليسألها:


- اليوم مساءً... بعد أن أعود من شُغلي، ماذا تُريدين أن تتعشّي، يا (زينب)؟.. اطلبي ما تشتهين... فمنذ اليوم، (ستطبخين) حسب رغبتي أنا...

 

هكذا سمح لي أبي.*


   مصطفى الحاج حسين.  

           إسطنبول



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق